حين تتقاطع الحرب مع النفس

حين تتقاطع الحرب مع النفس
بقلم: هديل داوود
معالجة نفسية بالفنون، متخصصة في علاج الصدمات وضحايا الاعتداء الجنسي
بين ليلة وضحاها يتبدّل ويتغيّر برنامج حياتنا. الروتين لم يعد قائمًا، بل صارت حالتنا النفسية تتأثر بكل خبر، بكل إعلان عن حرب، ونحن ننتظر سماع عبارة: “وقف إطلاق النار”.
عملك يتوقف، أو ربما يعود إلى خلف الشاشة… وكل شيء يبدو هشًّا ومؤقتًا.
دعيني أشاركك ما مررتُ به في هذه الفترة، محاولةً أن أستردّ نفسي خلالها.
في السنتين الأخيرتين، نعيش في حالة حرب مستمرة، تتفاوت شدّتها من وقت لآخر، لكن اندلاع الحرب في الشهر الأخير كان كالصاعقة.
استيقظت، كغيري، على إعلان الحكومة ببدء الحرب. اختارت نفسي أن تُنكر الحدث، فنهضت كالمعتاد لأبدأ يومي، متجهةً إلى العمل، حيث كانت العديد من العائلات بانتظار جلساتها العلاجية.
لكن سرعان ما تواصلت إحدى المعالِجات في طاقمي لتتأكد مما إذا كان العمل قائمًا في ظل إعلان الحرب. عندها فقط، بدأت أستوعب أنني كنت أحاول الانفصال عن الواقع، عن كل ما يجري حولي.
بدأت أتابع الأخبار، وبدأ يتضح لي أن أيامًا صعبة قادمة، لم أكن أعي بشاعتها بعد.
حاولت ترتيب الأمور سريعًا: ألغيت الجلسات، تواصلت مع الطاقم، وانخرطت في دوري الإداري بتحمّل المسؤولية والتنظيم.
لكن لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت حياتنا تدور بين الملاجئ وصفّارات الإنذار. ننتظر تعليمات متى يمكننا الخروج من “المنطقة المحمية”، ودماغنا مهيّأ تلقائيًا لصوت الصفّارة، ينبّه الجسم بالتحرّك الفوري.
في قلب الأزمة
نعم، مررنا بأيام صعبة، تختلف حدّتها حسب المنطقة.
لكن دوري لم ينتهِ هنا؛ كمعالِجة، أصبحت جلساتي تُعقد خلف الشاشة. أسمع الهلع والقلق في صوت كل طفل وأم وأب، وأشهد احتياجهم لإعادة ترتيب حياتهم بعد شعورهم بتهديد يومي لأمانهم.
الضغوطات، من الداخل والخارج، تؤثر على نهج حياتنا، على نفسياتنا، وعلى ردود أفعالنا.
حتى إعلان وقف إطلاق النار جاء في منتصف الليل، كخبر مفاجئ، ومعه دعوة للعودة الفورية إلى العمل… وكأن شيئًا لم يكن.
وهنا كانت الصدمة الأكبر: أن نصارع بين فرحتنا بوقف الحرب، وبين أجسادنا المنهكة التي قاتلت يومًا بيوم لتُكمل المسار.
عندما عدت إلى العمل، رأيت العديد من الزملاء قد تغيبوا، بعضهم بحجّة المرض.
لكنني كنت مدركة أن هذا ما يُسمّى بتأثيرات ما بعد الصدمة.
نعم، هناك من اكتأب، ومن لم يستطع النوم، ومن سيطر عليه القلق، وهناك من فكّر بالهجرة.
ولا أنسى أولئك الذين لديهم أحبة في الخارج تم إلغاء طائراتهم.
وقف إطلاق النار، بالنسبة للكثيرين، لم يكن فقط لحظة راحة… بل لحظة انهيار.
كأن الجسد تلقّى الإذن أخيرًا ليشعر.
ما كان مخفيًا عن الوعي خلال فترة الحرب، ظهر فجأة مع الهدوء.
حين نخدم من مكان مُثقَل
أمام هذا الواقع المتقلّب، كخادمة ومرافقة للآخرين، بدأت أتساءل في صمت:
- كيف نُشفى نحن الذين نخدم؟
- كيف نتابع الرسالة ونستمر في العطاء بينما أرواحنا مثقلة؟
- كيف نفهم هذا الإنهاك الذي لا يُرى، والضغط الذي لا صوت له، لكن أثره واضح في الجسد والنفس؟
حينها، أدركت أن ما نمرّ به ليس مجرد إرهاق عابر، بل استجابة نفسية عميقة لحدث صادم وممتد.
وهنا، وجدت نفسي أعود إلى أدواتي كمعالِجة، لأفهم وأُفسّر، وأحاول أن أجد مساحات أمان… لي أولًا، ثم لمن حولي.
نفسيًا: كيف نتعامل مع كل هذا؟
الحرب تضعنا في حالة تأهّب مزمن. الجهاز العصبي يدخل في وضع “النجاة” (Survival Mode)، فتكثر ردود الفعل مثل:
- فرط التيقّظ (Hypervigilance)
• الأرق
• نوبات القلق
• نوبات بكاء مفاجئة أو خدر عاطفي
• الانهيار المتأخر بعد انتهاء الخطر الظاهر
وهذه ليست مؤشرات ضعف، بل استجابات بشرية طبيعية لضغط غير طبيعي.
ما الذي يساعدنا؟
ما يساعدنا نفسيًا في هذه اللحظات هو أن نُمارس المرونة النفسية (Resilience)، أي القدرة على استعادة التوازن رغم الظروف القاسية.
إليك بعض الطرق العملية:
▪ الاعتراف بالمشاعر دون إنكار
قولي: “أنا مرهقة” أو “أنا خائفة”، لا يُنقص من قوتك، بل يُخفف من التوتر الداخلي.
▪ تثبيت الروتين اليومي، ولو بشكل بسيط
وجبة منتظمة، وقت نوم محدد، أو حتى فنجان قهوة في نفس التوقيت… هذه التفاصيل تُعيد للجهاز العصبي شعورًا بالثبات.
▪ التنفيس العاطفي الآمن
من خلال الحديث مع شخص موثوق، أو الكتابة، أو الرسم، أو حتى الصلاة – أي وسيلة تعبّرين بها عمّا بداخلك.
▪ التحرّك الجسدي
حتى المشي الخفيف يساعد الدماغ على المعالجة ويقلّل من التوتر.
▪ تحديد “مساحة أمان” داخلية أو خارجية
مكان أو لحظة تُذكّرك أن الحرب ليست كل شيء.
قد تكون أغنية، آية، حضنًا، أو صوتًا يطمئنك.
وأين هو الرجاء؟
إيماني هو ما يُبقي روحي ثابتة.
رجائي في شخص الرب يسوع، هو أماني، وحمايتي، وسندي في وسط هذا الضيق.
مهم أن نلجأ إليه، نشاركه مخاوفنا، نصلي، ونعلن:
“الركب الساجدة أقوى من الجيوش الزاحفة.”
لسنا مدعوين أن نعبر الضيق وحدنا،
بل هو معنا، يسندنا ويعيننا،
رجاؤنا في شخصه القائل:
“لا أُهملك ولا أتركك… عيني عليك.”

