بقلم غادة بنورة رشماوي

“وَفِي كُلِّ بِلاَدٍ وَمَدِينَةٍ، كُلِّ مَكَانٍ وَصَلَ إِلَيْهِ كَلاَمُ الْمَلِكِ وَأَمْرُهُ، كَانَ فَرَحٌ وَبَهْجَةٌ عِنْدَ الْيَهُودِ وَوَلاَئِمُ وَيَوْمٌ طَيِّبٌ. وَكَثِيرُونَ مِنْ شُعُوبِ الأَرْضِ تَهَوَّدُوا لأَنَّ رُعْبَ الْيَهُودِ وَقَعَ عَلَيْهِمْ.” أستير 8: 17

في أحد الأيام، أقام ملك يدعى أحشويروش وليمة سخية وسط أجواء مبجّلة، وكان قد دعا زوجته الملكة لتحضر أمامه فيفتخر بجمالها أمام الشعوب والرؤساء. لكنها رفضت طاعة أمره مما تسبب لاحقا في اقصائها وتعيين ملكة أخرى مكانها (أس 1: 15، 19)، ليتم اختيار أستير اليهودية لتتولى هذا المنصب، اذ إنها نالت اعجاب الملك وسروره. كانت أستير فتاة يهودية يتيمة، ربّاها ابن عمها مردخاي، الذي شاء التدبير الإلهي أن يسمع بمؤامرة ضد الملك لقتله (2: 21). فما كان منه إلاّ أن أبلغ أستير بتلك الخطة لتُبلغ الملك هي بدورها، ليكون مردخاي بذلك منقذا له، ولكن تمر الأيام دون إكرام هذا المنقذ. لاحقا يظهر في مسرح الاحداث شخص اسمه هامان الأجاجيّ الذي كان له منصب فوق كل الرؤساء (3: 1)، والذي خطط في قلبه للقضاء على الشعب اليهودي بسبب غضبه من مردخاي (3: 2-6)، وبسبب حقد قَبَليّ سابق يتأصّل في صراع بين نسل هامان الشرير عدو اليهود ونسل مردخاي البنياميني (1 صم 15: 9، 11، 18-20، 32-33).

بلغ هذا الحقد أوْجه عندما استطاع هامان أن يقنع الملك بإصدار أمر بإبادة الشعب اليهودي (3: 11). لقد انتشر هذا القرار المختوم بختم الملك إلى كل بلدانه، ليربك أجواء المدينة ويرعب اليهود مسببا بكاء ونحيبا ومناحة عندهم، الأمر الذي جعل مردخاي يقنع أستير بضرورة التدخل لإنقاذ شعبها. فكرّست أستير مع مردخاي وجميع اليهود صياما تاما لمدة ثلاثة أيام قبل أن تحاول الدخول الى حضرة الملك؛ لم يكن باستطاعة الملكة الدخول الى الملك بدون دعوة منه، وإلاّ يكون خطر الموت يهدد حياتها.

قد تبدو لنا الايام الثلاثة قليلة ، ولكنها أيام كانت تفصلهم عن مصيرهم النهائي، والتي قدمت بعدها أستير بجرأة حياتها من أجل شعبها. ربما امتلأت هذه الأيام بالدموع والكآبة، ولكن انتظار الشعب وصبرهم أظهر الامل والرجاء، ربما يظهر بصيص هذا الأمل في قول مردخاي لأستير: “ومَن يَعْلَم إنْ كُنْتِ لِوَقْتٍ مِثلَ هذا وَصَلْتِ إلى المُلْكِ؟” (أس 4: 14). وهكذا، بعد انقضاء الايام الثلاثة، تحلّت تلك السيدة بالقوة ووقفت في بيت الملك لتنال نعمة في عينيه. فأقامت وليمة جمعت الملك مع عدوها وعدو شعبها الذي سبب تلك المأساة لهم. لقد جاء هامان العدو بفرح إلى الوليمة وفي قلبه أن يُحرّض الملك ضد مردخاي فيصلبه. ولكن كان التدبير الإلهي قد سبقه، ليقلق منام الملك ويحمله على تذكّر انقاذ مردخاي له ونسيان الملك إكرامه في حينه (أس 6: 1، 3). وهكذا انتهت تلك الوليمة بتكريم مردخاي وبموت العدو هامان على نفس الخشبة التي أعدّها لقتل الاخير. ولم ينته الامر هناك، بل أصدر الملك مرسوما بوجوب دفاع اليهود عن أنفسهم أمام اعدائهم في ذات اليوم الذي كان معدّا لإبادتهم (أس 8: 11). لقد كان لهم في كل بلد ومدينة، وفي كل مكان وصل إليه أمر الملك، فرح وبهجة واحتفال. لقد كان انتظارهم مجديا، فنوحهم تحول الى يوم طيّب، وحزنهم إلى ابتهاج، بل إلى ارسال هدايا وعطايا للفقراء (أس 9: 22).

ومن الملفت للانتباه أن اسم الله أو ذكره لا يظهر في هذا السفر. ولا تظهر أيضا سيرة ايمان مميزة لأستير أو مردخاي أو الشعب اليهودي. لكن تدبير الله واهتمامه ورعايته تظهر في كل التفاصيل. فليس اعجاب الملك بأستير ووصولها الى هذا المنصب صدفة، وليس تذّكر الملك اكرام مردخاي أمر عشوائي. لقد امتدت يد الله الخفية وراء الستار لتحول مشهد الألم والبكاء الى فرح وترنم وخلاص، فعند المساء يَبيتُ البُكاء، لكن في الصّباحِ تَرَنّم (مز 35: 6). لقد أظهر الله في مسرح هذه الاحداث أنّه لا ينعس ولا ينام (مز 121: 4)، وأنه لا يترك شعبه ولا ينسَ وعوده لهم، فأمانته مرتبطة بطبيعته كحافظ العهد حتى عندما كان شعبه في السبي.

ان لشعب الرب في كل مكان وزمان دعوة للثقة في الله وفي تعاملاته وفي حكمته وتدبيره، لا سيما في الظروف الصعبة. يقول الرسول بولس: “ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبّون الله، الذين هم مدعوّون حسب قصده” (رو 8: 28). وقد كان لنا المسيح أعظم مثال في احتمال الآلام؛ اذ علم بالسرور الذي ينتظره فتحّمل الصليب وآلامه مستخفّا بالعار من أجل الفرح المنتظر (عب 12: 2). فإن كنا ننتظر تدّخل الله في ظروف صعبة نمر بها، وإن بانَ مسرح الأحداث مظلما ومبهما، وإن ظننّا بأن الله غائب عنها، فإن بإمكاننا أن نثق بأن الرب ليس بعيدا عن مسرحها حتى وإن لم يكن مفهوما لنا. لم يكن مصير الشعب اليهودي في يد الملك، بل إن قلب الملك نفسه في يد الرب كجدول ماء يميله حيث شاء (أم 21: 1). إن انتظار الرب لا ينتهي الا بالفرح دوما؛ فرفقته وأمانته ومحبته وصلاحه وحكمته تنير كل ظلام وتعطي كل رجاء. لقد انتصر الشعب اليهودي على الأعداء، واحتفل بهذا الانتصار، ولكن شعب المسيح سيبقى لديه دوما انتصار بصليب المسيح وفدائه (رو 8: 37). فطوبى للشعب الذي الرب إلهه (مز 144: 15)، وطوبى للمتوكل عليه (مز 34: 8).