بقلم د. مدلين سارة

أخصائية تربية ومستشارة نفسية مسيحية

نحن كبشر نعيش مشتتين ومبعثرين بالرغم من رؤوسنا الثابتة على قاماتنا، ربما ننظر إلى القشور ونتجاهل المضمون، إن معظمنا يتأرجح بين الماضي والحاضر، بين التردد واتخاذ القرار، تدور معركة في أعماقنا وتنشغل أذهاننا بقضايا متشابكة يتربع على عرشها الخوف من المستقبل المجهول ونفكر بكل شيء بعيدا عن الرب إلهنا وبعيدا عن الحاضر الذي نعيشه.

ببساطة شديدة سأوضح لكِ واقعنا الذي يبعدنا عن اللحظات الآنية في حياتنا. لو جلست مع صديقة لارتشاف القهوة، راقبي نفسك، خرجت لقضاء وقت للترفيه عن نفسك. لكنك ستجدين نفسك شاردة، تفكرين في مسؤولياتك المنزلية والمهنية وتخططين لتنفيذ المهام الملقاة على عاتقك. هنا، أنت حرمت نفسك من التمتع بالحاضر وانشغلت لا إرادياً بالتفكير في نقاش حاد مع زميلتك بالعمل وخسرت الأوقات الجميلة التي سعيت إليها لقضاء وقت مريح مع صديقة أو مع أحد أفراد العائلة.

للأسف، هذا ما يحدث عادة، نعكر صفو الحاضر بانشغالنا بأزمات الماضي ومسؤوليات المستقبل، هذا النهج يتكرر يوميا ويجعل التوتر سيد الموقف، هذا السيد الذي يسرق هدية الحاضر.

علينا أن نتعلم كيف نعيش الحاضر، ربما تجدين في بواطن هذه الكلمات التشجيع الكافي الذي ينير طريقك ويدفعك لفتح صفحة جديدة في حياتك تستند على نهج سليم ومتفائل للتمتع بالحاضر واختبار الحياة بنظرة جديدة لكل شيء من حولك. قد تجدين أن عملك هو الباب المفتوح لتفجير القدرات والمواهب ولقائك بشخص هو بداية لأروع اللحظات، وخدمتك هي أولى خطواتك نحو إتمام دعوتك ورسالة وجودك. فلو تعاملنا مع كل لحظة في حياتنا على أنها جديرة بالاهتمام، سنحصد الرضا والحكمة والذكريات المميزة وكنوزا من العلم والعلاقات والفرص، هذا التوجه الجديد في حياتك وهذه المشاركة الفعالة لحاضرك هي ما أتى به إلهنا لحياتنا.

“هاأنذا صَانِعٌ أَمْرًا جَدِيدًا. الآنَ يَنْبُتُ. أَلاَ تَعْرِفُونَهُ؟” اشعياء19:34. كلنا بانتظار غدٍ أجمل وأفضل. لكن ماذا مع “الآن”؟ فالآية تقول إن أمرا جديدا الآن ينبت، ويسأل هل وجدناه؟ هل استطعنا أن نميزه وان نحدده ونشعر به ونختبره؟ إذا كانت معظم إجابتنا نفياً، فذلك يعني أننا أخفقنا الوعي، ولم نلاحظ بركة اللحظة وما ينَبت وما يُفتَح أمامنا وما ينمو ويتغير حولنا. على سبيل المثال، في لقاء مع رفيقة قد تتولد محبة مميزة، وعلاقة وطيدة أو شراكة قوية أو يتولد حلم عظيم.

كبشر نقلق كثيرا، ولكن الكتاب المقدس يحثنا على عدم القلق والاهتمام بالغد والمستقبل. لذلك يقول “وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟” متى27:6. جميعنا ندرك تماما إن انغماسنا في التفكير والقلق بشأن الغد لا يغيّر أمراً ولا يحسنه.

“الآن” هي لحظة في انتظارنا جميعاً. إن “الآن” هي لحظة متاحة للجميع. فكما أن أجسادنا لا يمكن أن تتواجد في مكانين مختلفين في آن واحد، علينا أن ندرّب عقولنا أن لا تكون في مكانين بنفس الوقت. إن بعض الأمور الهامة التي فقدناها في هذا العصر السريع الذي يعج بفوضى الالتزامات وثقافة الانجازات وحب الظهور والذي ألقى بظلاله الثقيلة والمحمومة على كل بيت وعائلة وكنيسة من خلال الإعلام والإعلانات ومواقع التواصل الاجتماعي التي تعزر بداخلنا حالة الفساد المتمثلة في سطحية الأفكار وانهيار القيم والمثل الإنسانية وتركز على المنافسة التافهة والتباهي بأشياء لا قيمة لها في عالم الإنسانية. إن هذا التدفق الغير متوازن في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يجعلنا نلهث وراء ما لا يستحق حتى التفكير به، فكيف لنا أن ندخل في سباق مع الآخرين لا نحصد من خلاله سوى المزيد من الحزن والكآبة والإحساس بالعجز والنقمة على الواقع لندخل في دوامة السباق نحو المستقبل.

الكل في بحث مستمر عن غدٍ أجمل ومواعيد أعظم وأحلام أكبر. والحقيقة أنها بين أيادينا لكننا فقدنا التعامل معها. يقول الكتاب في 2كورنثوس 2:6 «فِي وَقْتٍ مَقْبُول سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ». هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ.” إن الله يقول انه في الوقت المعد جاء المسيح وخلصنا، وتمم عمل الفداء من اجلنا. ومنذ تلك الساعة وذاك الوقت يعتبر كل يوم من أيام حياتنا يوماً مقبولاً، إنه وقت لنقبل ما عمله المسيح لأجلنا. ولذا فكل يوم فيه فرصة وبركة متاحة “الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ”. لعلي أسالك الآن: ماذا لو عشت نهارك ووقتك وفرصتك بالآن على أنها فرصة للاستمتاع بأفضل لحظة؟ ولا اعني استمتاع أناني ولحظة لذة وقتية وعابرة. بل انتهاز اللحظة يعني انه بإمكاني أن اصنع منها كنزاً، وثروة عظيمة، وذلك بالتفاعل الايجابي معها.

إليك بعض الخطوات مع الأمثلة العملية:

  1. التزمي الصمت ومارسي االتأمل:

إننا نحتاج أن ندرب أنفسنا على التأني والهدوء وان نكون حاضرين في اللحظة الراهنة. وهذا يتطلب الالتفات إلى الجمال والطبيعة المحيطة بنا. سنستمتع باللحظة فقط عندما نتعلم الصمت والسكون. حاولي تدريب نفسك يوميا على تخصيص عشر دقائق للجلوس في صمت. استمتعي بمشروب ساخن في مكان مريح وامنحي نفسك عشر دقائق من السكينة. لقد سماها البعض “الاستركاز”. انه وقت للسكون والتأمل. لندخل رحاب الصمت، ونمنح أذهاننا المشتتة الفرصة للتركيز. استعيني بالدفتر والقلم. حتى إن تشتتت أفكارك اكتبيها واطلبي من الله أن يقودك فيها بأوقات أخرى. إنما هذا الوقت هو وقت لتدفق السلام داخل قلوبنا.

استمتعي بالطبيعة ونسمات الهواء وأشعة الشمس على جسدك، استمتعي بكل ما يحيط بك في تلك اللحظة. هذا تدريب شخصي يساعدك في أن تكوني بوعي كامل في أوقاتك مع الناس.

  1. حاولي إحصاء بركاتك:

نحتاج أيضا إلى تدريب أذهاننا على ملاحظة الأمور الايجابية والبركات اليومية. اكتبي قائمة بالأشياء التي باركك بها الله، وكل الأشياء التي تجعل حياتك رائعة. وانتبهي إلى تفاصيل حياتك الصغيرة; إلى الأشخاص الذين تحبينهم، والفرص التي أتيحت لك، والشرفة التي تجلسين عليها يوميا، وكوب القهوة الذي تحتسينه والكتاب الذي تقرئينه، واللائحة تطول.

نحن تعودنا على التفكير في همومنا ومشاكلنا مع بزوغ فجر كل يوم جديد. سوف يساعدنا هذا التمرين على التركيز على الأمور الجميلة والرائعة. “بَاركِي يا نَفسِي الرَّبَّ ولا تَنسَي كُل حَسَناتهِ.” مزمور 103: 2إذا كنا شاكرين لما هو كائن اليوم وموجود سنكون أكثر سعادة في هذه اللحظة. بدلاً من تعليق آمالنا على سعادة منشودة في مكان آخر ووقت آخر.

  1. تخلي عن التعلق الشديد بالنتائج المستقبلية:

معظمنا نسعى جاهدين نحو النجاح أو على الأقل نحو تجنب الفشل أو استياء الآخرين. لكن، فيما لو تركنا “الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ” متى34:6. فإننا نَقي أنفسنا من إفساد التمتع بالحاضر.

نعيش القلق خوفا من نهاية الطريق ولكن الكتاب يقول ” قَلْبُ الإِنْسَانِ يُفَكِّرُ فِي طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ يَهْدِي خَطْوَتَهُ” امثال9:16. إن إلهنا القدوس يعرف كل شيء، يعرف ماضينا ومستقبلنا. فبدلا من استنزاف طاقاتنا في القلق على المستقبل، علينا أن نفتح قلوبنا له ونسلمه طريقنا. فهو يعرف كيف يقودنا ويوجه أقدامنا. جزء من اختبار الفرص والبركات الحاضرة هو الثقة بأن الرب معنا ليتولى أمورنا ويدبر شؤون حياتنا حسب مشورته الصالحة. “سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي،” مزمور 37: 5