بقلم روان صباح منير

“أحسن شغلة المعلمة.. بتروحي وبترجعي مع ولادك وبتفورصي معهن”

أعمل كمستشارة تربوية في مدرسة واؤمن إيمانا شديدا أن التربية هي أمر هام وأساسي، وتلعب دورًا مركزيًا في حياة المجتمعات والشعوب، إذ باستطاعة التربية أن تكون المفتاح لتغيير مجتمع بأكمله. فغالبية الأشياء إذ ليس جميعها تبدأ من التربية، ولربما نعي جميعنا أن ما نحن عليه اليوم من سلوك ومعتقدات ولربما مشاعر، متأثر بشكل كبير في التربية التي تلقيناها، الشخصيات التي كبرنا من حولها والقيم التي نشأنا عليها.

إذا نظرنا من حولنا نرى أن المرأة تحتل مكانة مهمة وأساسية في المجتمع، فان المرأة هي المسيطرة على الجهاز التعليمي والتربوي، والمهنة الأكثر شيوعا بين النساء في بلادنا هي التربية والتعليم، حيث تشكل النساء الأغلبية المطلقة لأعضاء هيئة التدريس في جميع مراحل التعليم، من سن الطفولة المبكرة وحتى المدارس الثانوية. على سبيل المثال في فلسطين، عدد المعلمين في المدارس للعام الدراسي 2015/2016 بلغ 55,160 معلما ومعلمة، منهم 21,312 معلما من الذكور و33,848 معلمة من الاناث.

تتواجد المرأة في الأطر التي يقضي بها الأطفال معظم أوقاتهم: البيت، المدرسة ولربما الكنيسة. في البيت هي الأم والقدوة التي يتعلم منها الأطفال. إذ تؤكد الدراسات أن أكثر ما يتعلم منه الأطفال هو المشاهدة والتقليد للشخصيات الأقرب منها كالأم والأب. في المدرسة المرأة هي المعلمة والمربية والموجهة. فالمدرسة تعكس وجه المجتمع بفئاته المتعددة حيث يتعلم الأولاد عن أنفسهم من خلال الاحتكاك بالآخرين وعن كيفية التعامل مع بعضهم البعض. أما في الكنيسة فنرى أنه غالبا تكون معلمة مدرسة الاحد امرأة، فتؤثر على تشكيل وتكوين الجانب الروحي للأطفال، ومن خلالها يتعلم الاطفال عن الله وصفاته، كيف يفهمونه ويتصورونه في قلوبهم وعقولهم، وكيف يمارسون إيمانهم.

قد تكون المرأة غير واعية لمدى حجم قوتها وتأثيرها، الا أن جميع المعطيات التي ذكرت أعلاه تؤكد أن في يد المرأة المفاتيح الأكثر قيمة وأهمية. فالمرأة تحتل منصب قيادي، إذ تقود الأجيال القادمة، والتي من خلال هذا المنصب تستطيع أن تؤثر على تشكيل المجتمع كما شاءت في مجالات عدة، كالدينية والثقافية والاجتماعية. فالتربية هي السلاح الذي من خلاله نستطيع أن نحارب معتقدات وأنماط تفكيرية لا نرغب بها، ومن خلال التربية نستطيع أن نغرس قيم ومبادئ التي من شأنها أن تغير ممارساتنا في المستقبل.

إذا أردنا أن نحدث تغيير وأن ننمي أجيال قادمة تتمتع بأيدولوجيات مختلفة عن تلك التي تربينا عليها، علينا أولا أن نكون على وعي ذاتي وأن نفحص مواقفنا الشخصية كنساء تجاه موضوع المرأة في المجتمع: فهل في داخلي معتقدات معينة مغروسة تجاه مكانة المرأة؟ هل أعتقد مثلا أن على المرأة أن تساهم في بناء المجتمع لكن لا أن تقوده؟ هل أعتقد أن عليها دعم زوجها للوصول إلى القمة بينما تكتفي بلقب العظمة وراء هذا الرجل؟ قد تكون رؤيتنا للأمور ناتجة عن قولبة اجتماعية نشأنا عليها والتي أصبحنا نرى ونفسر الاشياء من خلالها، فتقبلناها وعشناها وما زلنا نعلمها لأولادنا، ولم نفكر أو نجرأ يومًا على طرح الاسئلة من وضعها، كيف ولماذا؟ نحن أنفسنا ننسخ أنماط تفكيرية دون إدراكنا لذلك، فلكي يتغير ما نحصده يجب أن يتغير ما نزرعه.

بالرغم من محبتي الشديدة لمهنتي وايماني بأنها ارادة الله لحياتي، إلا أنني لا أرى من الخطأ أن أسأل نفسي ما الذي دفعني لأكون مستشارة؟ هل ما أنا عليه اليوم هو نتيجة لرغبتي الباطنية لتلبية توقعات مجتمعي؟ هل تبنيت الفكرة أنه لكل من الرجل والمرأة أماكن ومجالات محددة للعمل منذ الولادة؟ هل هي إرادة الله أم إرادة المجتمع؟ أتذكر مقولة أمي التي تكررت خلال طفولتي “أحسن إشي تصيري معلمة، بتروحي وبترجعي مع ولادك وبتفورصي معهن”. أعلم أن أمي هي ليست الوحيدة، وأن العديد من النساء يعملن في مجال التربية تأثرا بمقولات كهذه. لا أدّعي أنه أمر سيء، إنما أدعو جميع النساء لاستغلال هذه المكانة لقيادة المجتمع إلى مكان أفضل، مكان يتيح الفرص للجميع ولا يحد منها أو يحددها حسب اختلاف الجنس.

أريد أن أتحدث عن أمثلة من حياتنا اليومية التي تعكس مدى تأثيرنا على نظرة الأطفال لأنفسهم ولبعضهم البعض، حالات نواجهها بين الاخوة أو بين طلاب المدرسة. كم مرة سمعنا بعضنا البعض نكرر جملة نوجهها للأنثى “عيب انت بنت” أو للذكر “عيب عليك تتشاطر عبنات“. هل فكرنا مرة ماذا تحمل هذه الجمل في طياتها من رسائل؟ “عيب انت بنت”، أي بسبب أنك أنثى عليك التصرف بالطريقة الفلانية، وإياك أن تتصرفي بطريقة أخرى، فهذا لا يليق بك. “بتتشاطر عبنات”، أي أشجع الأطفال على التفكير أن المرأة هي مخلوق ضعيف والرجل هو قوي، فلنترك القوة للرجال أما المرأة فتعمل بحسب قدراتها. يكبر الأطفال على هذه المعتقدات ليتكون مجتمع محدود الفكر، فما يحد النساء اليوم هو نساء ورجال على حد سواء نتيجة للنظرة التي تتشكل في ذهن الأطفال عن الفروقات الجندرية. من الأفضل أن نتعامل بطريقة متساوية، فعند حدوث مشكلة نستطيع أن نتعامل مع كلا الطرفين بموضوعية بدلا من أن نحدد الأدوار مسبقا دون إعطاء الحرية للأطفال كي يكونوا ما يشاؤوا بحسب رغباتهم وقدراتهم كما خلقهم الله عليه دون إعطاء الأفضلية لطرف معين.

لا أقول إنه علينا أن نثور ضد كل ما هو قائم، ولا أدّعي أن على المرأة أن تبدأ بالتفكير كيف تكون أشبه بالرجل، إذ لا أعتقد أن الرجل هو المقياس للنجاح، بل أن نعطي احتراما لأطفالنا بمنحهم حرية الاختيار ليكونوا أنفسهم دون فرض عليهم أي أمر، ولنتيح لهم الفرص المختلفة بالتساوي. فإن تحديد أدوار الجنسين يخلق مشكلة اجتماعية، فإن الاختلافات في الأوضاع ليس أساسها الاختلاف البيولوجي، بل اختلاف في الرؤى والمفاهيم والمعتقدات واختلاف في الثقافة أيضاً. وعليه، فإن هناك اختلافاً بين النساء في المجالات المختلفة، كما أن هناك اختلافاً في علاقات الرجال والنساء في المجتمع. فالتكوين الثقافي والاجتماعي هو الذي يجعل من الذكور رجال ًوالإناث نساءً، ويحدد لكل منهما الأدوار والوظائف المجتمعية.

لذلك، علينا اخذ هذه النقاط بعين الاعتبار: 

  • ألا ننظر بدونية الى أنفسنا وقدراتنا ولقوة التغيير التي بإمكاننا القيام بها لمجتمعنا.
  • استغلال منصب التربية لإحداث التغيير الذي نرجو أن نراه في الأجيال القادمة في مجتمعنا، عن طريق ترسيخ مبادئ العدل والمساواة وتوفير فرص متساوية للجميع، والمساهمة في إدخال مضامين وبرامج تعليمية لكسر النمطية الجندرية ولتحقيق التغيير.
  • أن نكون واعيين لمواقفنا ومعتقداتنا تجاه هذا الأمر.
  • أن نمتحن الأمور في مجتمعنا بنظرة ناقدة.

من الجدير ذكره أنني لا أدّعي أن مسؤولية التربية هي من شأن المرأة فقط، أو أن المرأة هي المصدر لكل ما يحدث أو سوف يحدث بالمجتمع، بل أدعو النساء للتأثير لأنهن في مكان مؤثر.

في النهاية أسأل ماذا عن نساء بمجالات أخرى؟ فالقيادة لا تقتصر فقط في مجال التربية والتعليم. هل تطمحي لتكوني بمراكز قيادية ومؤثرة أيضا بدوائر أخرى أم أن القيادة اقتصرت فقط على الرجال؟ هل نأخذ أدوار قيادية في كنائسنا/ في أماكن عملنا مهما كانت؟ إن الزمن الحاضر مختلف جدا عن الزمن الماضي، فنسبة النساء الحاصلات على ألقاب جامعية في القرن الواحد والعشرين لم يسبق لها مثيل في التاريخ. ففي فلسطين مثلا، عدد الإناث الحاصلات على ألقاب جامعية في العام 2015/2016 هو 124,936 بينما عدد الذكور هو 79,809. هنالك العديد من الأدوار القيادية التي تتمتع بها النساء، إلا أن المعطيات تكشف أن هذه الأدوار ما زالت بنسبة قليلة جدا. اترك لكم السؤال: لماذا؟!!!