جازفي وانطلقي: رغم كل مخاوفك!

بقلم د. مدلين سهواني سارة 

مستشارة نفسية وأخصائية تربية

       من الطبيعي ان نحتمي كبشر في منطقة الراحة، وهي الزاوية التي تمنحنا الحماية والأمان وبعض التوقعات المنطقية لما ننتظره في قادم الايام. ونعتقد اننا قادرون على قيادة السفينة وفق معطيات ومعايير وثقافة تربينا عليها وتقوقعنا بداخلها ونخشى الخروج منها. فنفضل البقاء فيها على ان ننمو ونجرب ونجازف. كطبيعة بشرية واجتماعية نميل للتمسك بعقليات معينة ونفضل تكرار تجارب حياتية مع اجترار القصص القديمة. وما هذا سوى تعبير اخر لتفضيلنا للمتعارفات، فرسمنا خارطة طريق ضمن افاق ضيقة ومحدودة بالرغم من عدم رضانا عنها.

     ان التطور المتسارع على كافة الصعد والأزمات التي تعصف بالعالم أدت الى تفاقم حالة الخوف التي تعشش في اعماقنا وتشدنا الى الوراء وتهبط من عزيمتنا وتكبلنا وتتركنا فريسة للخوف. فكل ما يحدث في عصرنا اليوم يهدد و يُشعر العديد بالعجز والخيبة والخذلان لان الأمور تتغير ونجد انفسنا نرفض التغيير والمجازفة، مع العلم ان فتح افاق جديدة يعتبر نتيجة حتمية للانسجام مع المتغيرات للوصول الى الأفضل في كافة جوانب حياتنا المهنية والاجتماعية والمادية وحتى المعنوية والعلاقاتية. فما نفعله عملياً هو أننا نخاطر بالتخلف أو الخسارة حينما لا نترك القديم لنواكب الجديد. وفي هذه المرحلة واليوم بالتحديد نحن بأمس الحاجة للتغيير، هذا التغيير ان اغفلناه، نكون قد سقطنا مستنقع الفشل. ولذا عزيزتي فالبقاء في أماكننا وجمودنا على ما نحن في عصر ما بعد الحداثة أكثر خطورة من التغيير الحتمي.

       بالرغم من اننا نتحسر على الماضي ونكرر مقولات مستهلكة على سبيل المثال ” “لم يعد الزمن كما كان”، “لم يعد البشر كما كانوا”. اقف متحيرة، اين الغرابة في ذلك؟ التغيير ظاهرة طبيعية تعكس التطور الموضوعي للمجتمعات. فعلى سبيل المثال، انظروا الى ألبومات الصور وتفحصوا الذكريات والتفاصيل، العادات والتقاليد، السلوكيات والمضامين، اللبس والموجودين!  أهي نفسها؟ طبعا لا. هل هو تغيير سلبي؟ إن الحكم على سلبيته او ايجابيته سيعتمد حتماً على آلية التقييم ومصدره ومعاييره ومنطلقاته؟

سأشاركك بنقاش دار مع ابني الذي يدرس علم النفس في الجامعة، وفي مساق التواصل بين الثقافات ابدا الاستاذ عدم قدرة الاهل على تقييم سلوك ومنهجية حياة أبنائهم استنادا الى المعايير التي نشأ وتربى عليها الاهل. لأنها ببساطة اختلفت، كأننا نستخدم وحدة قياس القدم عندما نحتاج الوصول الى نتيجة بالأمتار. فكما أن وحدات القياس تختلف من دولة الى أخرى، كذا مقاييسنا عن السلبي والايجابي، ومقاييسنا من جيل الى جيل.

      وكجزء من طبيعتنا النفسية، نعيش داخل تناقضاتنا، نخشى المجهول ونرفض عدم اليقين مع العلم باننا نمتلك القدرات التي تؤهلنا لامتلاك مهارات التغيير، فمن الناحية النفسية، ما يؤكد ذلك هو مشاعر الملل والضجر وعدم الرضى التي هي مؤشر لحاجتنا للتغيير والبحث عن افاق أوسع وتدعونا الى فتح صفحة جديدة في حياتنا. وهنا لابد من التحرر من الحاجز النفسي الذي يعيق مسيرتنا ويشككنا في قدراتنا ويعزز مشاعر الخوف والارتباك مما تجعلنا أكثر ميولاً لتوقع نتائج أكثر سلبية.  

     فان مشاعر الخوف طبيعية في مرحلة التغيير الا انها ليست اللاعب الوحيد على الساحة، لكن الاسترسال في الخوف يعيق تقدمك فتتوقفين عن اتخاذ خطوات جديدة. مثلا تفكرين في تغيير عملك وانتِ لا تثقين بقراركِ لان شيئا ما يشدك الى الوراء وتتوقعين ان يكون هذا التغيير في غير صالحك لأنه فقط مجهول، فتبتعدين عن التفكير بالاتجاه الاخر والذي لربما هو ما سيجعلكِ أكثر نجاحا وتميزا. أو قد تفكرين في بيع جزء من ممتلكاتك للاستثمار في مشروع جديد. لكن الخوف من المجهول يجعلك تقفين مكانك (توقع سلبي) ولا تأخذين أي خطوة الى الامام فتمتنعين. فما يحصل بحسب النظرية النفسية العصبية هو أن دماغنا يميل للمعلوم، فيفضل نتيجة سلبية متوقعة على نتيجة غير مؤكدة. وكمحصلة لهذا التفكير نبقى مكاننا وعلى حالنا.

         ان أدمغتنا تتميز بالمرونة العصبية (neuroplasticity) والتي من خلالها يقوم عقلنا (الجانب الفكري والاحساسي والسلوكي) بإعادة بناء الدماغ وذلك من خلال تعديل روابطه أو تغييرها. هذا يعني ان الادمغة البشرية قادرة على التكيف والتدرب باتجاه النمو والازدهار والتغيير. فبالعودة الى المثال السابق، أي مقترح بيع جزء من الممتلكات من اجل الاستثمار، سيمكّن صاحبة الفكرة التعلم والنمو والازدهار.

        وكما ان خوفنا من التغيير يعتمد على الروايات القديمة المخزّنة في عقولنا؛ التي اكتسبناها من خلال خبراتنا الغير مباشرة لذوي أقراننا وأصدقاءنا لدرجة أننا حفظنا تجاربهم وكأنها حتما ستتكرر وتكون تجاربنا.  فالفتاة التي تُقبل على الزواج مع روايات فاشلة مخزّنة في ذاكرتها حتماً ستجترّها وتجيد توّهمها لتجعلها قصة حياتها.  لأن مخاوفها تتسبب في تأكيد ذلك الفشل. لكن تذكري أنك انت بطلة القصة، فلا تستسلمي للخوف ولا تسقطي القصص الفاشلة للأخرين على نفسك، بل ابتكري قصتك الخاصة. فبالرغم عن ان معظم النتائج الحياتية خارجة عن سيطرتك، الا أن ذلك لا يعني أنه لا يمكنك لعب دور أكثر نشاطًا وفعالاً في حياتك. إذا كنت تودين نتيجة مختلفة، ابدئي بتحفيز عقلك على التحرر من النمط التقليدي في التفكير لان عقلك فقط هو القائد الرئيسي في رحلة النمو والتطور، فانت المؤلف والكاتب الوحيد لكتابك.

         لقد أدرك الرب يسوع أهمية القصص فاستخدمها ليعبر من خلالها عن مفهومه لله والانسان وحياته والملكوت. لقد أدرك أهمية القصص في تشكيل معتقدات وعقول الناس. فلا بد أن تدركي بان التغيير لا يبدأ بقولنا: “اريد التغيير”، بل بإجراء تحديث على الروايات والقصص التي نتلوها. 

    قبل التقدم نحو التغيير، علينا أن ندرك عوامل الخوف من الخروج من منطقة الراحة والدخول الى حالة عدم اليقين:

  1. عدم اليقين يزيد من مخاوفنا. يحب دماغك أن يكون مسيطرًا. الجوع إلى اليقين هو أحد وظائف الدماغ الخمسة، مثل تسديد احتياج الانسان للطعام. إن عدم اليقين يولد استجابة تنبيه قوية في نظامنا العصبي؛ وبالتحديد في جهازنا الوجداني. فحينما يكتشف دماغك خطأً ما، تقل قدرتك على التركيز على قضايا أخرى. هذا ما شهدناه واختبرناه فترة الكورونا الأولى. الجميع عبر عن صعوبة في التركيز ومشاعر الإرهاق. فالدماغ لا يحب عدم اليقين، ويتعامل معه مثل نوع من الألم والغموض ويسعى مثابراً ليعود الى حالة اليقين ويعتبرها ثواباً. فسلوكياً نجد أنفسنا نميل الى أن نبقى على حالنا.

2.عدم تقبلنا للمتغيرات الحياتية يجعلنا نعاني أيضًا. من منا يحب المعاناة؟ فجميعنا نهرب من الألم والمعاناة. لدينا صعوبة في المضي قدمًا. عندما تنتهي وظيفة أو علاقة أو حتى فصل الصيف (للأشخاص الذين يعشقون الصيف مثلي) فإننا قد نتعثر ونستذكر الايام الصيفية الجميلة ونستمر في سرد القصص الممتعة عن الفصل الذي انتهى وندور في دائرة مغلقة بدلا من تهيئة أنفسنا لفصل الشتاء الذي لا نحبه. هنا علينا أن ندرك بان كل قصة او واقعة لا بد لها من نهاية، حينها فقط نستطيع الاسترخاء.

 

اليكِ بعض التوصيات اثناء الانتقال والتغيير: 

  • أعدي نفسك واستعدي قدر المستطاع: عندما يكون ذلك ممكنًا، حاولي نفسياً من خلال افكارك وتصوراتك الذهنية الاستعداد لمرحلة جديدة. قد يتضمن ذلك بعض التخطيط (ماذا يمكنني أن أفعل، لمن أتوجه؟ من يستطيع أن يرافقني بهذه المرحلة)، تبني عقلية مفيدة ونشطة.
  • ضعي توقعات معقولة: تؤدي التوقعات الغير قابلة للتحقيق إلى الإحباط أو التوتر. لذا حاولي أن تضعي توقعات معقولة. فان كنت مقبلة على الزواج، ضعي توقعات واقعية من الشريك، وايضاً عن مصادركم المادية، وعن طبيعة علاقتك مع العائلة الممتدة، وتذكري أنك أنت من سيكتب هذه القصة، لا تتبني قصص الاخرين، تميّزي، وأيضًا عزّي نفسك أن الشعور بالتوتر أثناء التحولات أمر طبيعي جداً!
  • تحققي من حوارك الداخلي ومن اللغة التي تخاطبين بها ذاتك. ما هو نوع حوارك مع ذاتك؟ هل هذا الحوار يساعدك على التأقلم مع التغيير اثناء المرحلة الانتقالية؟ أم انه يفاقم من توترك؟   

ان أفضل أساليب تطوير الحوار الذاتي يأتي من خلال استذكار تجارب سابقة تعاملتِ معها بنجاح. فمثلا لو عقدتُ العزم على تغيير مجال خدمتي، أعود بذاكرتي الى الوراء واسترجع التجارب الناجحة وأركز على المنهجية التي اتبعتها لتحقيق أهدافي، ثم أتطلع الى النتائج التي وصلت اليها والتي أدت الى احداث تغييرات جذرية في مسيرتي المهنية. فهذه التغيرات التي تعتبر بحد ذاتها قفزة نوعية وسّعت من مجال تأثيري واستخدام الله لي في أطر لم أكن اتوقعها!

  • حافظي على تواصلك مع اشخاص تثقين بهم. جميعنا نحتاج الى الدعم الاجتماعي.  يمكن أن تكون الدردشة مع أحد أفراد العائلة أو الأصدقاء وسيلة للمساعدة في تقليل الشعور بالوحدة أثناء مرحلة التغيير واتخاذ خطوة جريئة في حياتك. 

سأنهي بقصة راعوث من الكتاب المقدس قصة في طيات صفحات العهد القديم. قد تكون مثلك شابة، أصبحت ارملة في ريعان شبابها وتركها زوجها بلا أطفال. كان بإمكانها العودة الى ارضها وعائلتها كما نصحتها حماتها نعمي، لتتزوج ثانية وتكمل حياتها. هذه طبيعة الفكرة السائدة والعادات المتعارف عليها والتقاليد المتبعة والقصص القديمة. لكن راعوث رفضت النمط التقليدي ورفضت تكرار قصص من سبقوها وقررت أن تكتب قصتها في مكان جديد (مجهول لعقلها) ووسط شعب جديد (شكوك ومخاوف وعدم يقين)، ونحو انطلاقة غير مضمونة (خارج منطقة الراحة)، ولكل من يعرف القصة، فراعوث هي نفسها الكاتبة الفعلية والحقيقية لقصة حياتها، وبدعم من حماتها (عكس الروايات السلبية عن علاقة الحماة والكنة) انطلقت لتكون بطلة من ابطال الكتاب المقدس. 

جازفي وانطلقي واكسري قيود خوفك.