بقلم هديل داوود

مُعالجة نفسية بالفنون

اختي العزيزة، هل تتذكرين معي الإعلان الأول الذي صدر في بداية شهر اذار عن فايروس الكورونا؟هل تتذكرين حالة الهلع؟وحالة الخوف التي دخلنا فيها جميعا؟

أتذكر جيدا ذلك اليوم، كنت في طريقي للقاء مع فريق الخدمة يهدف الى بناء خطة عمل للأيام والأشهر المقبلة كما اعتدنا دائما.

لكن في منتصف الطريق تلقيت مكالمة من احدى الصديقات، صوتها يرتجف، تطلب مني عدم الدخول للبلدة، فهناك اشخاص شُخصوا انهم يحملون فيروس الكورونا. خلال الحديث معها محاوِلة تهدئتها من هلعها، أرسلت لي بعض الصور، من حواجز واغلاقات قامت الشرطة بفرضها لمنع التجول وحماية الناس من العدوى.

من هول الحدث، وربما رفضا مني ان اصدق مدى خطورة الموضوع، اعتقدت ان ذلك ما هو الا اجراء لإعلان حالة طوارئ ليومين او حتى أسبوع على الأكثر! ثم تعود حياتنا الى طبيعتها. الا ان الأسبوع امتدّ الى عدة أشهر. وطبيعة عملي كمعالجة في مركز علاجي لضحايا الاعتداء الجنسي، تحول الى مركز علاجي عن بعد؛ علاج من وراء الشاشة.

الازمة والضغط وفترة متقلقلة وغير ثابتة، هي وبكل تأكيد أمور تؤثر على حياتنامن جوانب مختلفة. منها طبيعة العمل، وتعاملنا مع افراد البيت، وعلاقاتنا مع القريبين منا والبعيدين عنا، والتأقلم وسط الظروف المتغيرة والغير مستقرة، وبالتالي التواجد في البيت لفترة طويلة. جميع هذه التغييرات ليست بالأمر السهل على كل فرد منا، صغير كان أم كبير، ولها دور كبير في التأثير على صحتنا النفسية.

ماذا عن الشباب والشابات، او حتى الأطفال الذين تغيرت حياتهم وأسلوب عيشهم بعد تعرضهم لأنواع مختلفة من العنف سواء الجسدي أو الجنسي أواللفظي أو النفسي، أو حتى اهمال متعمد من قبل العائلة. أيا كان نوع العنف. فله تأثيرات على نفسية الفرد، بعضها تأثيرات مؤقتة والبعض الاخر للمدى البعيد.

وسط جائحة الكورونا والتغييرات التي اضطررنا جميعا الى مواجهتها والتأقلم معها، كان لا بد ان تحصل أيضا تغييرات لكل متعالج. الازمة لكل متعالج كانت تأثيراتها مضاعفة في تلك الفترة.

بعد ان كانت غرفة العلاج هي المكان الآمن اصبح خروجهم من البيت بحد ذاته خطرا. أصبح الآمن غير آمن، خوفا من العدوى وانتشار الفايروس اكثر.

هل يمكنك ان تتخيلي معي، مشاعر تلك الطفلة التي تعرضت لاعتداء جنسي من قبل اخيها، بما يسمى بزنا المحارم او سفاح القربى. البيت يحمل ذكريات، وصوراً في الذهن لاعتداء تعرضت له من أقرب الأشخاص داخل المنزل. تحاول تلك الطفلة اللعب دومًا خارج البيت، الذهاب الى المدرسة كي تتجنب قدر المستطاع التواجد داخل جدران المنزل الذي يذكرها بالاعتداء، محاوِلة التفريغ وقبول مسار العلاج لتكملة المسار. الا انه ومع جائحة الكورونا، فإن ذات الطفلة التي انتظرت الجلسة أسبوعيا،ادركت ان التقييدات الجديدة تمنعها حتى من التفريغ والبوح عما يجول في داخلها، اذ ان الجلسة العلاجية أصبحت جلسة عن بعد عبر الشاشة من داخل ذلك المنزل. عن أي ازمة وضغط تتحدث تلك الطفلة ؟!

وماذا عن هذا الشاب المراهق، الذي ينتظر الجلسات بشكل اسبوعي، والذي يتحدث دوما عن أهمية الجلسة بالنسبة له والمكان الآمن داخل هذه الغرفة كي يشارك بحريةٍ صراعاته وتحدياته دون أي ازعاج او تدخل من أي فرد من العائلة. يجد نفسه، في احدى غرف البيت محاولا ان يجد مكاناً هادئاً لا يسمعه فيه احد ليسكب ألمه الداخلي.

عن أي خوف نتكلم؟ الخوف من الاعتداء؟ الخوف من العدوى من الكورونا؟ ام الخوف من ان يسمعه أحد خلال جلسات العلاج عن بُعد؟

الا توافقي معي ان الضغط النفسي في هذه الحالات قد ازداد ولم يعد يقتصر على حالة الاعتداء التي مرّ بها المتعالجون؟

بينما انا وانت نضع الكمامة الواقية لنحمي انفسنا من المرض، كنت أرى الطفلة تضع في تلك الفترة الكمامة غيرالمرئية! اراها تضع كمامة لنفسيتها، تكتم بها ضغطها وصراخها الداخلي الذي تود ان يخرج ويطلق أموراً ومواقف للنور، لكن الظروف لا تساعدها على البوح والمشاركة.

امام الأنواع المختلفة من الكمامات كان لا بد لي ان اتولى مسؤولية، محاوِلة ان اساعد أولئك الشباب والشابات، الأولاد والبنات ان يلقوا خارجا كمامةً تغطي نفسية الطفل. لا يمكننا التنازل عن الكمامة الواقية، لكن يمكننا التحدث عن الكمامة الكاتمة للنفس. كلما زاد ضغط الكورونا ازداد الضغط النفسي. والكمامة الكاتمة للنفس للمتعالج أغلقت مواضيع ومواقف اصعب.

في هذه الفترة استعنت بالأهل بشكل مكثف، وشجعت المتعالج على استخدام قدراته ومواهبه التي طالما رفض رؤيتها، لتساعده في هذه المرحلة من الضغوطات.

أؤمن ان نجاح كل علاج يعتمد على مساعدة الاهل، مرارا قمت بشرح موقفي وايماني تجاه التأثير المهم للأهل خلال مرحلة العلاج. لقد شبهت هذه المسيرة بالشكل المثلث.فإن القدرة على الاستمرارية لمساعدة المتعالج تعتمد على ثلاثة أطراف، المتعالج والاهل والمعالِج. العمل المشترك معا أساسي ومهم اذ ان الاهل هم قاعدة اساسية لنجاح العلاج.

لهذا فمن المهم أيضا الاصغاء لاضطرابات الاهل المختلفة في هذه الفترة، ومساعدتهم على تخطي المرحلة دون لومهم، فالبعض – ونتيجة للضغوط الخارجية والداخلية – قد يشعرون باللوم او الفشل في تأدية رسالتهم كوالدين لأطفال. لكن مجرد افساح المجال لهم لمشاركة التخبطات والمخاوف بأنواعها المختلفة يوفر إمكانية اكثر لاحتواء ردود أفعال أطفالهم بشكل افضل. قدرتنا على التفريغ في الأماكن الصحيحة تساعدنا على الامتلاء من جديد بأفكار وطرق وآليات لمساعدة أنفسنا واطفالنا على تخطّي المرحلة بشكل أفضل.

اما بالنسبة للمتعالجين، فكان هناك وقت للتركيز على نقاط مختلفة كي تخفف من حدة الضغوط. وبالتالي مساعدة المتعالج على تنمية ثقته بنفسه. “من أنا غير قادر وسط الظروف الى انني قادر رغم الظروف”. “من عدم قدرتي على التواجد في غرفة العلاج، الى بناء طرق بديلة تساعدني على التفريغ لإزالة كمامة النفس”.

اليك بعضاً من المفاتيح، اثق جدا أنك إذا اتبعتها فستساعدك انت أيضا على تخطي فترات الضغط والأزمات بطريقة ناجحة:

  1. استعيني بالأشخاص الذين تثقي بهم، وشاركيهم اضطرابك وضغطك. مشاركتك هي من باب التفريغ والتنفيس، ولا تتوقعي حلاً جذرياً يغير الحالة. تذكري ان جزءاً كبيراً من ضغوطاتنا هو اننا لا نجد مكاناً لنشارك.
  2. حاولي بناء برنامج يومي يساعدك على رؤية بداية ونهاية لكل يوم. وجودك في البيت لا يعني ان الأيام كما هي على حالها.
  3. استثمري وقتك في الكتابة او الرسم او حتى الغناء، او القراءة او الزراعة. أنواع الفنون المختلفة قادرة على هدم أفكار سلبية تحاصرك وضغط نفسي يعيق تحركاتك.
  4. تذكري أن فترة الضغط هي ليست أبدية. مررنا بظروف صعبة بالماضي وتجاوزناها. اختاري أن تجتازي هذه الفترة بشكل مثمر لك ولعائلتك.
  5. المشاعر والذكريات الصعبة تلاحقنا في فترات الضغط بشكل اكبر، هذا لا يعني انك عدت للماضي ابداً ! تمسكي بما نلتي من حرية وحاولي ان تمنحي نفسك أوقاتاً من الراحة. فأجسادنا ونفسياتنا واذهاننا بحاجة للراحة.
  6. في النهاية اشجعك ان تلتصقي بالرب في وسط أي ظرف وتأكدي انه هو مهتم بجميع امورك، النفسية والمادية. هو معتني بك ويقودك الى رحب لا حصر فيه.