بقلم د. مدلين سهواني سارة 

أخصائية تربية ومستشارة نفسية مسيحية

على الرغم من انتشار الوعي بشكل متزايد وواضح في مجتمعاتنا خلال السنوات الخمس المنصرمة، إلا أنّ كل هو متعلّق بالصحة النفسية لا زال يبدو غير مقبول أو غريب بشكلٍ أو بآخر حتى في ظل تكثيف عملية التثقيف والتعليم في هذا المجال. 

وبشكلٍ عام، فإن احتياج النساء للدعم النفسي يفوق الاحتياج لدى الرجال، حيث أظهرت العديد من الأبحاث والتقارير التي أعدّت في هذا المضمار أن النساء معرّضات للإجهاد والاكتئاب والقلق بشكل أكبر من الرجال، وذلك يعود لكثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقهنّ من ناحية، وأيضاً بسبب قلّة الفرص من ناحية أخرى. وعليه، فإنه يتوجّب علينا أن نكون فاعلات ومنتجات وبكامل حيويتنا، بالإضافة إلى كوننا مبادرات وصانعات تغيير ضمن نطاق دوائرنا. 

للأسف الشديد، فإن تفسيرنا لمفهوم العناية الذاتية يأتي من منطلق ضيّق جداً؛ إذ نعتقد أن العناية الذاتية تقتصر على العناية بصحتنا الجسدية فقط (على الرغم من أن العناية بصحتنا الجسدية تعتبر جزءاً مهمّاً من الصحة النفسية)؛ فترانا نولي اهتماماً لإجراء فحوصات طبية موسمية، وأخرى ضرورية للتأكد من أننا لا نعاني من أمراض أو نقصان معدل بعض الفيتامينات في أجسامنا خشية المضاعفات التي قد نتعرّض لها. لكن، حتى في هذا الجانب، فإننا قد ننهج نهج ردة الفعل “النهج التفاعلي”، والذي يكون الدافع وراءه بالعادة هو التأثّر بالعوامل الخارجية والأزمات الحاصلة؛ كأن تصلنا أخبار من صديقة اكتشفت مؤخراً انتشار خلايا سرطانية في جسدها فنشغّل أجهزة الإنذار ونشرع في إجراء فحوصات. وأحياناً أخرى تكون ردة فعلنا لمجرد حدوث الوعكات الجسمانية التي قد نستشعرها بأجسادنا، فتراودنا هواجس فكرية ومخاوف تستدعينا لإجراء تلك الفحوصات خشيةَ المعاناة من بعض الأمراض المحتملة.

لكنني اليوم أودّ تسليط الضوء على “النهج الاستباقي”، حيث أنه حينما يتعلّق الأمر بمعايير الصحة الذاتية الشمولية، جسداً ونفساً وروحاً، فإن المرأة الاستباقية ستنهج نهجاً صحيّاً بكل ما يُعنى بالصحّة الجسدية مخططةً لنوعية الطعام وممارسة الرياضة والنوم الكافي وارتداء ملابس أنيقة ومريحة، كما ستجري فحوصات موسمية هامّة لمتابعة صحّتها. وفي زمن اكتظاظ الأعمال وتفاقم المسؤوليات، ستضفي بعض الهوامش على  جدولها اليومي.

أما المرأة التفاعلية فستتناول كل ما يقدمّ لها أو يتوفّر أمامها من مأكولات، وبلا شك فإنها ستنتظر الظروف لتسنح لها بممارسة الرياضة (وهو توقّع غير واقعي)، وقد لا تهتم بملابسها فتقول ” أنا ألبس ما هو متوفّر” معتقدةً أنّها بذلك تتصف بصفة سامية التصقت بالأنثى ألا وهي التضحية؛ فتراها تنهك جسدها وترهقه دون توقّف مدّعية أن هذه من سمات المرأة المضحّية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأسباب النفسية وراء ذلك أعمق وقد تعتبر أقنعة لعدم وضوح الذات الحقيقية لديها. 

وفي هذا السياق، فإنّ ما ستفعله المرأة الاستباقية هو أنّها ستولي اهتماماً للتحدّي والمعرفة والفضولية والإبداع. ستضع خطة أسبوعية مركّزة وواضحة لتطوير ونمو فكرها المستمر من خلال القراءة والدورات ومصادر التعلّم المقصودة. كما أنها لن تهمل الجانب العاطفي والوجداني، مدركةً أهمية قبولها لذاتها، وستّتجه نحو حل المشكلات ومواجهة التحدّيات. كما أن هذه المرأة تمتلك معرفة لنقاط قوّتها ونقاط ضعفها وتتقبّل نقاط الضعف وتسعى لتقويتها. وفي بعض الأحيان، حين يكون لديها تحدٍّ بالمواجهة، أو تواجه مشكلة في العلاقات، فإن المرأة الاستباقية ستهتم بأن تنمو في هذا الجانب وتعدّ نفسها للمواجهات المستقبلية.

كما أنها لن تهمل دور الآخرين في حياتها، وذلك من خلال تقديم واستقبال المحبة والتقدير ومشاعر الانتماء. وسيكون لديها أهمية لوجود شخص ما (قد يكون شريكها، أو صديق/ة، أو مرشد/ة…)  تستطيع الاعتماد عليه /عليها وتعرف أن تمرح وتستمتع بالحياة معه/ معها. وفي نفس السياق، فإننا -من خلال عملنا في مجال المشورة النفسية- نشدّد دائماً على أن وجود شخص واحد يكفي لرحلة تعافي الفرد من آلامه النفسية. 

لذلك، عزيزتي، على ضوء كل ما سبق، نصيحتي لكِ ألا تنهكي نفسكِ بالعمل والمسؤوليات وتهملي نفسيتك. تواصلي مع الطبيعة وتواصلي مع الناس الذين يبثّون الأمل والفرح والشغف للحياة.

وأخيراً وليس آخراً اعتني بروحكِ وعلاقتك بإلهك ونموّك الروحي، واقتربي من إلهك واعملي على توطيد علاقتكِ به، و استخدمي وقتكِ وطاقتكِ وخيالكِ وإبداعكِ لحلّ المشكلات الحياتية والتحدّيات بتساؤلات روحية كتابية وطريقة مدروسة ومنهجية واضحة، لتكوني على دراية بكل ما يتعلّق بفهمك للحياة من منظور الله.  وفيما يلي بعض التدريبات التي ستساعدكِ لضمان النمو منها: قراءة الكلمة والتأمل والصلاة وشركة المؤمنين والخدمة والعزلة والصوم والعبادة والعطاء وغيرها. فهي بالنهاية علاقة خاصة بكما، وستمتلكين خاصية جمال وتفرّد بعلاقتكما تختلف عن الآخرين. 

كوني امرأة استباقية بكل ما يتعلّق بصحتك النفسية؛ فابدئي من كونك واعية لحاضرك، ماذا تشعرين، ولماذا تفكرين بهذه الطريقة، كوني أيضاً واعية لمستوى طاقاتكِ اليومية، فلا ترهقي نفسك دون أن تتأكدي من نوال قسط من الراحة. فأنتِ تقومين بأدوارٍ متعددة كزوجة وأم وعاملة وموظفة، ولديكِ العديد من المسؤوليات، وتبذلين الكثير من المجهود. ومما لا شك فيه أن كلّ هذه الأعباء المنزلية، ومسؤولية الرعاية، والعلاقات الهامة، وتتميم مسؤوليات العمل ستقوم حتماً باستنزافكِ في حال لم تقومي بترتيب أولياتكِ وإن لم تعملي على وضع أهداف واضحة لكِ. لذلك، كوني واعية لحاضركِ واهتمي بأن تكوني على مستوى أعلى من الطاقة والحيوية والإشباع والرضا.

  بعض خصائص المرأة الاستباقية:

  • ثقة أعلى بالنفس في قدرتكِ على توجيه حياتكِ، وشعور أكبر بالسيطرة على الظروف وتوقّعها مسبقاً.
  • أن تكوني سيدة الموقف وتملكي القدرة على التوجّه نحو النجاح الذي تطمحين له. 
  • عقلية النمو المستديم وعدم الرضا التي تدفعك باستمرار نحو الإنجاز والتقدّم. 

فعلى سبيل المثال، عندما انتقلت ُمن إطار الخدمة الكنسية إلى مؤسسة أكاديمية، لم أشعر بالرضا؛ لم أكن مكتفية بدوري في مجال التعليم، بل كنت مدفوعة بدعوتي لإنشاء جيل من النساء اللواتي سيقمن بدور تأثيري في مجتمعهن. فلم أنتظر الفرصة، ولم أجلس مصليّة ومكتوفة الأيدي لعلّ وعسى الله يشقّ البحر ويحرك عصاه السحرية ليعبرني إلى ذاك المكان، بل حلمت وتخيّلت وآمنت برؤيتي وبأنّها من الله، ومن ثمّ خطّطتُ وتحرّكتُ بالتحدي في عدم وجود هذا المكان، وانتهزت فرصة عدم وجود هذا المكان الذي يقوم بهذا الدور بأن أبدأه أنا. وبالفعل، بدأت خدمة آنية من خلال خدمات بسيطة مهدّفة، كجلسات المشورة الفردية ومن ثمّ من خلال إقامة أمسيات توعوية اتسعت لمجموعات صغيرة. وفيما بعد، قرّرنا إصدار مجلة وإضافة خدمات أخرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وبنعمة الله وأمانة الخادمات، ها قد أصبحت اليوم خدمة آنية قوية ومتّسعة التأثير ومتعدّدة الخدمات.

وإليكِ ما تعلّمته من رحلتي المتواضعة:  

  • كوني مبادرة: المبادرة هي القدرة أو الميل لتقييم الوضع واتخاذ إجراءات مستقلّة بشأنه. يُظهر الأشخاص الاستباقيون المبادرة من خلال البحث عن الفرص بدلاً من انتظار ظهورها.
  • امتلكي منظور طويل المدى: تشير هذه الخاصية إلى القدرة على التطلّع إلى الأمام أثناء معالجة مهمّة أو قضية حالية. غالبًا ما يحاول الأشخاص الاستباقيون توقّع التحدّيات المستقبلية أو التفكير في كيفية تأثير الإجراءات الحالية على مستقبل فريقهم أو مؤسستهم.
  • كوني مرنة: من غير المرجح أن يستسلم الشخص المرن عندما يواجه صعوبة. فأنا أيضاً واجهت مقاومة واعتراض لاذع لقيام الخدمة على الرغم من كونها خدمة فريدة من نوعها لأنها توفّر الجانب النفسي، ولكنني تحدّيت واستمريت. فتأكدي أنكِ غالبًا ما ستواجهين تحدّيات، فاستمري وكوني مصرًة بأن تتغلبي عليها.
  • امتلكي توجّهاً: توجّهي دائماً ولو بخطوات صغيرة نحو الهدف وذلك من خلال تحقيق إنجازات محدّدة. فكما ذكرت، في كل فترة قمتُ بإضافة برنامج وخدمة جديدة.  تذكري أن المرأة الاستباقية تميل إلى معرفة ما ترغب في تحقيقه وهي تعمل بجدّ لتحقيق أهدافها.
  • تحلّي بعقلية النمو: فعقلية النمو هي فلسفة التحسين المستمر. غالبًا ما ينظر الأشخاص الاستباقيون إلى التحديات والنكسات على أنها فرص وكفاءات قابلة الطرق والفتح والعبور.

ومن أروع الأمثلة على شخصية استباقية كتابية هي شخصية نحميا عندما رأى أن حال شعبه في عار، ثم امتلك رؤية لإعادة بناء سور أورشليم وتجميع شعبه. فقد خطط لبناء السور، وتقدّم للملك ثم باشر بالعمل وحشد معه الكهنة والشعب. لقد واجه العديد من المقاومات ولكنّه أصرّ واستمر. 

ومن أكثر الجمل شهرةً ، الجملة التي قالها في سفر نحميا 2: 20  “فَأَجَبْتُهُمْ وَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ نَصِيبٌ وَلاَ حَقٌّ وَلاَ ذِكْرٌ فِي أُورُشَلِيمَ”  وبالفعل،  نجح ولم يكن لمقاوميه نصيبٌ في هذا النجاح والبناء.