بقلم د. مدلين سارة

أخصائية تربية ومستشارة نفسية مسيحية

يطمح الإنسان بطبيعته البشرية للوصول إلى السعادة مع العلم أن تعريف السعادة هو مفهوم نسبي يعتمد على تميزنا كأفراد بما في ذلك الخصوصية الثقافية والقدرات والطموحات وحتى الأحلام. لكن الهدف واحد وهو كيف نشعر بالسعادة والراحة والفرح ضمن رؤيتنا للأمور.

تشعر بعض النساء بالسعادة بعد انجاز وجبة طعام لذيذة استنفذت من وقتها وجهدها الكثير، لكنها مع ذلك تفرح بهذا الإنجاز، وأخرى قد تكتف بتواجد أطفالها يمرحون حولها حتى لو كلفها ذلك مشقة أعباء إضافية، في حين ترى أخرى سعادتها بالانجاز العلمي والنجاح المهني .إذن، إنها خصوصية تنفرد بها كل امرأة وتحقق لها الاكتفاء والرضا، لكننا للأسف وفي العديد من الأوقات نقرأ في قسمات وجوه معظم النساء ملامح السخط والحزن والقلق ويتفوهن بعبارات التذمر ولا يجدن في حياتهن ما يستحق الفرح.

أين تكمن المشكلة؟ وما هي الفروقات الفردية التي تولد الإحساس بالسعادة أو بالحزن؟

“لقد عرّف علم النفس السعادة بأنها نتائج الشعور أو الوصول لدرجة رضا الفرد عن حياته أو جودة حياته، أو أنّها الشعور المُتكرر لانفعالات ومشاعر سارّة، وفيها الكثير من الفرح والانبساط” “وهذا يعني أنّ السعادة في علم النفس، مفهومٌ يتحدّد بحالة أو طبيعة الفرد، فهو من يقرر سعادته من تعاسته، أو أنّ الأمر منوطٌ به، وبطبيعة تفاعله مع الظروف المحيطة، والمواقف الحياتية التي يمرّ بها”. لذا السعادة هي نتاج لحالة الشخص وقراراته. فكيف استطاع القديس بولس أن يفرح وهو في السجن ويواجه الاضطهاد بل ويحث المؤمنين على الفرح كأسلوب حياة بقوله: “اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا.” فيلبي 4: 4

أثبت العلم أن حالة الفرد ليست حصيلة ظروف محيطة به، بل مواقف فردية وشخصية يختارها الإنسان بمحض إرادته وبردود أفعاله الخاصة به. إن هذه الحقيقة العلمية جديرة أن تبعث الاطمئنان والسكون بداخلنا لأننا نحن فقطمن نحدد جودة حياتنا، ومن ناحية أخرى بإمكان هذه الحقيقة نفسها أن ترعبنا وتسحبنا إلى دوامة من اليأس والقلق إذا كنا من أصحاب الشخصيات المهزوزة والغير قادرة على إيجاد سبل الجودة في الحياة. هذالا يعني أن الحقيقة العلمية التي ذكرناها هي سلاح ذو حدين، بالعكس فإن هذه الحقيقية الراسخة تؤكد على أن السعادة قرار وحالة ذاتية تسمح لنا بالتحكم في مسار حياتنا وتحقق مستوى عال من الرضا الذي يعتبر جزء لا يتجزأ من القدرة على الاحتفال بالحياة الروحية الناضجة. إذ يقول الكتاب المقدس :”هذا هو اليوم الذي صَنَعه الرّب. نبتهج ونفرح فيه”. مزمور 118: 24 وورد في موضع آخر “اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ” يعقوب 1: 2 فكيف يمكننا أن نفرح بالتجارب والمحن الصعبة؟

تعتقد معظم النساء أن السعادة تكمن في البذخ واقتناء السيارات والأثاث والملابس الفاخرة وارتياد الملاهي، إنما هذه سعادة زائفة ومؤقتة بالرغم من قناعة روّادها بأنها هي الحقيقة المطلقة والسعادة المنشودة. إن هذا النهج ما هو إلا نهج عبودية المال والإعلانات التجارية التي تجعلك تلهتين وراء كسب المزيد من المال الذي يؤهلك للمنافسة والمقارنة مع الأخريات ويولد في أعماقك نوازع الشر والحسد الذي ما هو في حقيقته إلا عالم ساقط بإدارة شيطانية من إبليس وأتباعه وهو أقصر طريق إلى التعاسة وهذا كان ذكره الكتاب حينما قال:”منْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ؟
تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ .تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيًّا لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ.” يعقوب 4: 1-2 أن كل ما تحاولين امتلاكه ما هو إلا قناع يخفي نقص الداخل.

إن الحروب الداخلية التي تدور رحاها في أعماق النفس البشرية والباحثة عن ذاتها في ظل انعدام الثقة بالنفس هي التي تقود إلى الحروب الخارجية والتي لو عالجناها من الداخل لعم السلام في كافة أرجاء العالم ولسكنت السعادة في قلوب البشر. لان الصراع الداخلي الذي يجتاحنا يعبر عن نفسه في سلوك عدواني باتجاه الآخرين، ومشاعر سخط وغضب على الناجحين.

فما هي إذا النصائح العملية:

– اكتشفي مهمتك وهدف وجودك في الحياة وطوري نفسك: السعادة الحقيقة هي في تحقيق الغرض من وجودك على الأرض، فانظري إلى الله لا إلى نفسك، واكتشفي تميزك وكيف تم تشكيلك لإحداث تأثير وتغيير في العالم من حولك. وإذا تغاضيت عن تنفيذ خطة الله لحياتك، ستجدين نفسك في دوامة مغلقة من الضياع وفقدان البهجة والفرح الحقيقي. لهذا كله ضعي أهداف واضحة لحياتك.“لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.” أفسس 2: 10

– كوني أنت واحتفلي بنفسك: اجتهدي لتطوير نفسك، واحتفلي بما لديك وتجنبي المقارنة حتى لا تفقدي البوصلة التي صممها الله لحياتك . فقد صممك الله من خلال شخصيتك ومواهبك وقدراتك لدور محدد تستطيعين أنت فقط على تحقيقه. لا تهدري طاقاتك في محاولة التشبه بالآخر، لا تتهربي من نفسك بل على العكس يجب أن تحبي نفسك وتحتفلي بها لأنك من عمل الخالق وهو يعمل على حياتك كل يوم لتكوني عملا رائعاً مبدعاً ومتميزاً. فتعلمي أن تنظري إلى نفسك بايجابية، فاكتشفي نقاط قوتك واحتفلي بها حتى تغمرك السعادة.“وَاثِقًا بِهذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.” فيلبي 1: 6

– اختاري أصدقائك بعناية وقيمي علاقاتك: يقول جيم رون: ” أنت تمثل المتوسط للخمس أشخاص الذين تقضي معهم الجزء الأكبر من وقتك. فاحذري من علاقات تسرق وقتك وتشتت توجهاتك وتحرفك عن أهدافك في الحياة.”، كذلك تجنبي الأصدقاء الذين تستمتعين بجلساتهم لكنك بعد ذلك ينتابك إحساس بعدم الرضا ،أي تجنبي المستهترين بالحياة والذين يبعدونك عن تحقيق فرح وجودي. اقتربي من الأصدقاء والزملاء الذين يحفزونك دائما على التقدم والتميز واحتفلي بوجود من تفرح لفرحك وتبكي وتحزن لحزنك. اَلْمُسَايِرُ الْحُكَمَاءَ يَصِيرُ حَكِيمًا، وَرَفِيقُ الْجُهَّالِ يُضَرُّ. أمثال 13: 20

– سجلي كل ما لديك من ايجابيات مادية ومعنوية وصحية ، العائلة ، الشهادة ، الوظيفة ، الصحة… قدري قيمتها واستمتعي بها ويجب أن تدركي أن معظم من حولك يفتقدون ما لديك فابتعدي عن الطمع واقنعي بما لديك واستمتعي بأدق التفاصيل حتى تشعري بنعم الرب عليك وتدربي على الشكر والامتنان من خلال التأمل بخيرات وبركات الرب عليك، حينها فقط تكوني قد لمستي السعادة الحقيقية. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ .مزمور 103: 2

تذكري أن الاحتفال هو اكتمال العبادة. حينما نحتفل نستمتع بوجود الله وعظمته في حياتنا وفي العالم بأسره ويرسخ الإيمانفي أعماقنا ويجعلنا نرى الحياة من زاوية روحية مفعمة بالسعادة والتفاؤل . إن الفرح والاستمتاع هو دواء لداء الهم والبؤس. لذلك عزيزتي تعملي أن تبتكري مناسباتك الخاصة والمميزة لتحتفلي. فالاحتفال يمدّنا بالقوة لتي تشد أزرنا وتقوي عزيمتنا لنخوض معترك الحياة بفرح ورضا. افرحي واختاري السعادة والاحتفال بما وهبك الله.