بقلم هديل داوود (معالجة نفسية بالفنون- تخصص في علاج الصدمات وضحايا الاعتداء الجنسي)

بيوتنا الداعمة والوالدية الصحيّة تبعث جو من الاطمئنان والحب يسود العائلة بين الاهل والابناء وعلاقة الاخوة ببعضهم البعض. لكن يا للأسف الحالات المؤذية عديدة، نحاول أن نتجنبها رافضين أن نصدق معاناة ما يحصل داخل جدران بعض البيوت. قد نسمع أخبار صعبة، من مرض، أو فقدان أحد أفراد الاسرة، أو سرقة، أو مشاكل صحيّة، ولكن أصعبهم وما يحني ظهرنا ويشكك في قدراتنا على القيام مجددًا هو كسر وتشويه في علاقة داخل الاسرة. حينما يكون السند هو الخائن، عندما يكون دور الأخ الأكبر الحماية فيستغل سلطته وثقة والديه به ليعتدي على أخته التي لم تتجاوز السابعة من عمرها،  اذ استغل تفكك العائلة وعدم وجود الأب بعد أن كان محاولا أن يقوم بدور الأب والأخ معا، فتعدى دوره والمكانة التي منحتها له أخته الصغيرة. 

دخلت تلك الطفلة الى غرفة العلاج مضطربة، ومنطوية على ذاتها وخائفة تتساءل كيف لي ان أسترد ثقتي بالأشخاص؟ فبعد أن تربيت على أن بيتي هو الأمان ووثقت بأخي، خان الثقة وارتكب بحقي عملاً مشيناً.

ترك الأخ المنزل تتبعا لإجراءات قانونية اتخذت بحقه لحماية أخته من الأذية النفسية، حتى من مُجرّد رؤيته. فجميعنا نعلم ان حجم الصدمة وتأثيرها طويل المدى. 

وبعد جلسات علاجية أسبوعية استمرت على مدار أكثر من سنتين، لمساعدة الطفلة استعادة ثقتها بنفسها، إذ كانت تردد باستمرار  “انا لست المذنبة، بل هو القاسي المستغل”، ورافضة أيضاً اعتباره أخاً، لأن هذه الكلمة بنظرها تعارض كليا الاجرام الذي ارتكبه بحقها. وفي كل محاولة قانونية لترتيب زيارة معه كانت ترفض معبرة أنه غير جدير بالثقة، مُتّهمة إياه بأنه سبب خوفها من كل شخص، وأنها ترى نفسي فريسة سهلة للآخرين.

كمعالجة لطالما جلست لوحدي أسأل نفسي كيف لهذه الطفلة  هذا الكم الهائل من القدرة على التعبير، وعلى مُشاركة فكرها بحرية. لكنها علمتني معنى القوة وعدم الاستسلام، وعلمتني أننا بإمكاننا أن نُعيد رسم واقعنا  برفضنا التمركز  حول الحدث والتقوقع بدور الضحية. فشجعتني أن أقوم من مكاني وأثق أنه بإمكاننا أن نُكمل قصتها بطريقة أخرى راسمات معاً توجهات جديدة لا تقلل من شناعة الحدث الذي استغل براءتها، بل لنظهر  أنه بإمكان الضعف أن يُخرج قوّة ومن النوح انتفاضة ومن كل رماد أمل.

فبعد أن كان هناك فترة طويلة كانت فيها تنوح وتبكي، تعبر وتتألّم وتشارك الصور الذهنية التي لاحقتها من بعد الأذية، قامت تلك الطفلة منتفضة ومطالبة بلقاء اخيها. فهي من طلبت مواجهة أخيها مرددة “لن يسلب حقي مجددا، لقد كنت طفلة لم اتجاوز السابعة ولم يكن بمقدوري مواجهته، وارغامه أن يقف أمامي ويسمع ما لدي أن أقوله له… حان الوقت بعد أن تجاوزت العاشرة  أن أطالب بلقائه وأن أحدّد مواجهةً إياه من المجرم  ومن القوي، وأن استرجع السيطرة والملكية على جسدي.”

في نفس الوقت بقرار من المحكمة أُلْزِم الأخ أيضا على الخضوع لجلسات علاجية فردية لمتابعة وضعه. وبالتالي بعد التواصل مع الجهات المختصة قمنا بعقد لقاء بين الأخوة، لقاء يُعتبر نقطة تحول في حياة تلك الطفلة.

لقد أُعِدَّت لهذا اللقاء خلال جلساتنا الفردية، حيث ابتدأت رحلة علاجنا بجملة تكررت على مدى ثلاث سنوات: “لا تقول لي أخي”. فتغيّر موقفها بحيث كتبنا رسالة معاً، عنونتها “رسالة لأخي”، بحيث اختارت الطفلة أن تُحدّد معالم هذه العلاقة “مع المُسمّى أخيها” بناءًا على ردة فعله لهذه الرسالة.

لقد كان لقاءًا مؤثراً للغاية، فلم تفارقني الدموع خلال الجلسة، وجودي كان دعم لتلك الطفلة القوية التي علمتني معنى عدم الاستسلام لصنع واقع آخر، بكيت على بكاءها وتأثرت بمدى مصداقية هذا اللقاء. لقد صمَّمت أن تنظر بعينيه لتواجهه بفعلته الشنيعة مطالبة منه أن يقدم لها الاعتذار ويعترف لها بمشاعر الندم والخزي. بعدها قام الاخوة للحظة وبدون أي تخطيط واحتضنا بعضهم البعض، مُقدّماً الاعتذار وواعداً بالتعويض والعمل جاهداً لبناء الثقة من جديد، بينما كانت الأخت القوية والجبارة باكية لكن غير متراخية الأيدي مُطالبة بحقها بالأمان واسترداد السلام إلى قلبها وبيتها. 

أما هي فقد أعلنت غفرانها له ومسامحتها إياه، وانتهى اللقاء منادية إياه “أخي”. هكذا استطاعت هذه الطفلة ترميم حياتها وتحويل نقاط ضعفها إلى قوة واسترداد البهجة والفرحة لحياتها.