بقلم غريس الزغبي
1 صموئيل 25: 1-3
” وَكَانَ رَجُلٌ فِي مَعُونٍ، وَأَمْلاَكُهُ فِي الْكَرْمَلِ، وَكَانَ الرَّجُلُ عَظِيمًا جِدًّا وَلَهُ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ مِنَ الْغَنَمِ وَأَلْفٌ مِنَ الْمَعْزِ، وَكَانَ يَجُزُّ غَنَمَهُ فِي الْكَرْمَلِ. واسْمُ الرَّجُلِ نَابَالُ وَاسْمُ امْرَأَتِهِ أَبِيجَايِلُ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَيِّدَةَ الْفَهْمِ وَجَمِيلَةَ الصُّورَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَكَانَ قَاسِيًا وَرَدِيءَ الأَعْمَالِ، وَهُوَ كَالِبِيٌّ.”
تقدّم هذه الآيات الخلفية لقصة داود ونابال وأبيجايل، فبعد القراءة الأولى للقصة يستطيع القارئ أن يدرك الفرق بين الرجل نابال وامرأته أبيجايل. يصف الكتاب المقدّس المرأة بأنّها جيدة الفهم وجميلة الصورة، ولاحقاً يتبيّن لنا أنها كريمة ومعطاءة، وأما زوجها نابال، فهو قاسي ورديء الأعمال وعلى خلاف زوجته بخيل وقابض اليد! ومما لا شكّ فيه أن أبيجايل بجمالها وحكمتها جذبت انتباه العديدين من حولها وإن بدا أنّ زوجها لم يقدّر هذه الأمور في امرأته، ولم يعطِ لنفسه الفرصة حتى أن يتعلّم من عطاء زوجته، بل سار وراء موقف قلب شرير.
يروي لنا هذا الفصل من الكتاب المقدس قصة تتألّق فيها أبيجايل، وهي المرأة المبادرة التي تصرّفت بحكمة وفطنة عندما عجز زوجها عن القيام بذلك، إنّها المرأة التي خرجت من دائرة راحتها وذهبت لتقابل ملك إسرائيل المنتظر، خرجت وراء قلبها الجريء المعطاء الذي جاد بما لزم، بل وأكثر. لقد أخذت أبيجايل زمام المبادرة في هذه القصّة وقدّمت من أفضل ما تملك للملك داود ورجاله، لقد فتحت يديها في الوقت الذي لم يغلق فيه زوجها يديه فحسب بل عقله وقلبه أيضاً.
ببساطة رفض نابال أن يساعد رجال داود عندما كانوا بحاجة لذلك، رفض أن يقدّم لهم مما فاض الله عليه من غنى وبركات. وعندما علم داود بالأمر، غضب وعزم أن يذهب لمحاربة نابال ورجاله بالسيف، ردّاً على تصرّف نابال اللئيم مع رجاله. حينئذ كان على أبيجايل أن تتدخّل، وأن تخطو الخطوة التي لم يتخذّها زوجها. لم تبق بين جدران منزلها راجية أن يصلح الموقف نفسه بنفسه أو أن يصل الطعام إلى داود ورجاله بطريقة معجزية، بل تحلّت بالجرأة مجازفة بحياتها ومتحديّة للظروف والعادات، وأثبتت أنّ لديها القدرة على صنع القرار وتنفيذه بالرغم من تصلّب رأي زوجها وجهله.
لقد تطلّب القرار الذي أخذته عطاء وتضحية، كان هدفها إكرام داود ورجاله وتجنّب سفك الدماء. يخبرنا الكتاب المقدّس إنّ أبيجايل “بادرت”، ومع كل مبادرة، هناك فرصة للتقدّم، للعطاء، لمدّ اليد، لفتح القلب، لإصلاح موقف، لتقديم الرجاء: “”فَبَادَرَتْ أَبِيجَايِلُ وَأَخَذَتْ مِئَتَيْ رَغِيفِ خُبْزٍ، وَزِقَّيْ خَمْرٍ، وَخَمْسَةَ خِرْفَانٍ مُهَيَّأَةً، وَخَمْسَ كَيْلاَتٍ مِنَ الْفَرِيكِ، وَمِئَتَيْ عُنْقُودٍ مِنَ الزَّبِيبِ، وَمِئَتَيْ قُرْصٍ مِنَ التِّينِ، وَوَضَعَتْهَا عَلَى الْحَمِيرِ. وَقَالَتْ لِغِلْمَانِهَا: «اعْبُرُوا قُدَّامِي. هأَنَذَا جَائِيَةٌ وَرَاءَكُم…” ثم نسمع الحوار الذي تجريه مع داود:
“وَالآنَ يَا سَيِّدِي، حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، وَحَيَّةٌ هِيَ نَفْسُكَ، إِنَّ الرَّبَّ قَدْ مَنَعَكَ عَنْ إِتْيَانِ الدِّمَاءِ وَانْتِقَامِ يَدِكَ لِنَفْسِكَ. وَالآنَ فَلْيَكُنْ كَنَابَالَ أَعْدَاؤُكَ وَالَّذِينَ يَطْلُبُونَ الشَّرَّ لِسَيِّدِي. وَالآنَ هذِهِ الْبَرَكَةُ الَّتِي أَتَتْ بِهَا جَارِيَتُكَ إِلَى سَيِّدِي فَلْتُعْطَ لِلْغِلْمَانِ السَّائِرِينَ وَرَاءَ سَيِّدِي. وَاصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ أَمَتِكَ لأَنَّ الرَّبَّ يَصْنَعُ لِسَيِّدِي بَيْتًا أَمِينًا…وَيَكُونُ عِنْدَمَا يَصْنَعُ الرَّبُّ لِسَيِّدِي حَسَبَ كُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ أَجْلِكَ، وَيُقِيمُكَ رَئِيسًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ لاَ تَكُونُ لَكَ هذِهِ مَصْدَمَةً وَمَعْثَرَةَ قَلْبٍ لِسَيِّدِي، أَنَّكَ قَدْ سَفَكْتَ دَمًا عَفْوًا، أَوْ أَنَّ سَيِّدِي قَدِ انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ. وَإِذَا أَحْسَنَ الرَّبُّ إِلَى سَيِّدِي فَاذْكُرْ أَمَتَكَ…”
وهكذا يبدو واضحاً أنّ صدق محبّتها المضحيّة في سياق حديثها مع داود صنعت الفرق في هذه القصّة. لقد قامت أبيجايل بحكمتها بحماية نفسها وأهل بيتها من أي عمل انتقامي كان داود مزمعاً أن يقوم به ردّا على تصرّف نابال غير اللائق. من خلال مبادرتها هذه للقاء داود، قامت أبيجايل باستبدال الموت بالحياة، وسفك الدماء بالسلام، والجهل بالحكمة، وإظهار الكرم بدلاً من البخل، والمحبّة بدلاً من الانتقام، والبركة بدلاً من اللعنة. لم يكن في فكر هذه المرأة كسب القوّة أو النفوذ أو حتى أي أمر آخر، لا بل سمحت لله أن يستخدمها حتى تكون آنية بيديه وبركة للمجتمع في ذات الوقت. فلم يكن بوسع داود إلا أن يمتدح هذه المرأة، شاكراً ومقدّراً عملها:
“مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَرْسَلَكِ هذَا الْيَوْمَ لاسْتِقْبَالِي، وَمُبَارَكٌ عَقْلُكِ، وَمُبَارَكَةٌ أَنْتِ، لأَنَّكِ مَنَعْتِنِي الْيَوْمَ مِنْ إِتْيَانِ الدِّمَاءِ وَانْتِقَامِ يَدِي لِنَفْسِي.”
في العطاء هناك بركة ونعمة وتعزية. حريّ بنا رجالاً كنّا أم نساء، أن نثبّت أعيننا على أمانة وعدالة ومحبّة الله، هو الإله الذي يعطي بسخاء ولا “يعيّر”، أي أنّه لا يقيس بمكيال بل إنّ “يداه مفتوحتان لتشبعان كلّ حيّ رضى”. أصلّي أن نتشجّع جميعاً بلذّة العطاء، وأن نجتهد حتى نعطي من باكورة وقتنا وجهدنا وأموالنا ومواهبنا لله أوّلاً ثمّ لمن حولنا، للأسرة والكنيسة والمجتمع والعمل والخدمة، عالمين يقيناً من كلمة الله أنّ “المُروي هو أيضاً يُروى”. إنّ الله لا يضيّع أي أمر نقوم به لمجده وامتداد ملكوته، أو أي بذار نزرعها في كرمه، بل إنه وعد أن يباركنا أضعاف حتى نأتي بثمر للملكوت ثلاثين وستين ومئة. إذا صلّينا، سيفتح الله عيوننا ونكون مبادرين ومعطاءين وصانعي سلام تماماً مثلما كانت أبيجايل. أمين.