بقلم ميري أبو حنا حنانيا

اخصائية نفسية تربوية مختصة وطالبة دكتوراه

في ثنايا هذا العنوان، يكمن تساؤل أعمق من أنتِ؟ متى كانت المرة الأخيرة التي توقفت بها وأخذت فعلًا وقتًا للتفكير بمن تكونين، ماذا تحبين؟ ما هو حلمك وشغفك في الحياة؟ عندما تُسأل النساء هذا السؤال عادةً ما يعرّفون أنفسهم بالنسبة للأشخاص في حياتهم، على سبيل المثال ممكن أن تكون الإجابة “أنا أم، أخت، زوجة، صديقة”. تنشئة الفتاة والمرأة في مجتمعنا تركز على كونها من تعطي الرعاية لمن حولها، في كل الأدوار التي تشغلها، ولكن هذا الدور هو سيف ذو حدين، إذ يمكنه أن يضفي على حياتها روح العطاء بجميع ألوانها وفي ذات الوقت يشغلها عن ذاتها, فتفقد المرأة هويتها الشخصية وتبدأ بتقييم نفسها من خلال علاقاتها بالآخرين، بمعنى أن رأيهم بها وتقييمهم لها يؤثر على تقييمها لنفسها ونظرتها الذاتية.

ماذا تشعرين خلال قراءتك لهذه الكلمات؟ وهل تجدين نفسك في هذا المكان في الكثير من الأحيان؟ اذًا هذا المقال موجه لك. سوف آخذك معي في رحلة في عالمك الداخلي لتساعدك بإعادة التفكير بمن أنتِ وما هي حدودك، ولربما ستكون بداية للتغيير في حياتك.

نسمع الكثير عن الحدود في العلاقة بين الأهل وأطفالهم وأن دور الأهل هو احتواء الأطفال ووضع الحدود في ذات الوقت. لكنني أتحدث عن الحدود بمفهوم مختلف، في اللغة  الإنجليزية نتحدث عن هذه الحدود بمعنى “boundaries” وليس “limits”. أحد الأمور التي تتعلمها الفتاة منذ الصغر هي أن تهتم بمن حولها وعندما تكبر لتصبح امرأة تأخذ هذا الدور بطريقة شمولية، تهتم بأدق التفاصيل، ولربما تعتقد أن من حولها متعلقون بها ولا يمكنهم التأقلم والاستمرار في الحياة من دونها. خلال انشغالها بهذه الرعاية السامية، تنسى احيانًا بانها انسان لديه ميوله ورغباته الخاصة وأن دورها بالحياة لا يقتصر على تقديم الرعاية بل هو أوسع من ذلك بكثير.
هذا الدور يجعل المرأة أقل جرأة من الرجل في بعض الأحيان ويكون من الصعب عليها أن تسمح لنفسها بأن تكون بأدوار أخرى، ومن الصعب عليها أن ترفض طلبات الآخرين، أن تكون حازمة وأن تستخدم كلمة “لا”. فمن المتوقع منها أن تعطي بشكل مستمر وان تقول دائمًا لكل من يلجأ لها “نعم أنا سأساعدك”، وهذا أمر مهم ومؤثر للغاية. ولكن، عندما تقولين “نعم” للجميع، فأنتِ لا تضعين حدودًا لنفسك ولمن أنتِ وما هو المقبول والمسموح، أين تبدأ وتنتهي حدودك، وماذا ترفضين. أنا أتحدث عن الأمر بطريقة مطلقة ولكن كلنا كنساء نواجه ذلك، بنسب مختلفة، وعندما تكونين كذلك غالبية الوقت ستجدين نفسك من دون طاقة أو دافعية وستفقدين هويتك ومن أنت. متى كانت آخر مرة فعلت فيها امرًا لنفسك؟ لكي تشعري بالراحة والانبساط، نعم أنت، وليس فقط من حولك.

من الممكن أن تفكري أن سعادة من حولك هي أيضًا سعادتك، ولكن هل هذه هي الحقيقة فعلًا؟ وهل تخدمك هذه الفكرة أم تشكل عائقًا أمام راحتك؟ عندما تضعين الحدود المناسبة لك وبطريقة مناسبة ستجدين أكثر قوة، طاقة وحيوية في حياتك. بسبب النشأة التي تسلط الضوء على الاهتمام بالآخرين من الممكن انك ستفكرين بأن وضع الحدود واستخدام كلمة “لا” في الوقت المناسب من الممكن ان يجرح الآخرين، وهذا تخوف شرعي وطبيعي. لماذا من الصعب أن تقولي “لا، هذا لا يناسبني”؟ أنا متأكدة بأن لكل امرأة اجابتها الخاصة، ويتعلق ذلك بتجاربها في الماضي ومنذ الطفولة، وكيف نظر إليها الآخرون عندما فعلت ذلك ووضعت الحدود. وضع حدود لنفسك سيساعدك في التعامل بطريقة صحية أكثر مع كل من حولك وفي تربية أطفالك، والاعتناء بعائلتك.

ماذا سيساعدك في تحديد ما هو المناسب لكِ؟ في بعض الأحيان ستحتاجين للتصرف أيضًا بحسب ما يناسب من حولك وليس فقط ما يناسبك. بحسب المحلل النفسي “وينيكوت” وكجزء من تطور النفس الصحي هو أن يطور الانسان ال”false self” “الأنا المزيف”، وهو الجزء من ال “أنا” الذي يحتاج للتأقلم مع ما يتوقعه المجتمع وال “true self” هو “الأنا الحقيقي” الذي يشمل إرادة الشخص ورغباته الحقيقية. التوازن ما بين الجزئين هو أساس الصحة النفسية الجيدة، فعندما “يتسلط” الأنا المزيف نجد أن تصرفات الأشخاص هي فقط بحسب ما يتوقعه الآخرون واللحظات التي يكونون بها حقيقيون هي ضحلة جدًا. ونحن كنساء نجد أنفسنا في الكثير من الأحيان لسنا “نحن” في الحقيقة، فانت اكثر مما يتوقعه منك الآخرون وعليك أن تجدي التوازن بين الطرفين، فلا يمكنك أن تكوني دائمًا “أنت” وأن تعبري عن رغباتك بشكل صريح وحقيقي، ولكن لا يمكنك أيضًا التصرف فقط بحسب ما يتوقعه الآخرون.

في أحد الحالات التي وُجهت الي كأخصائية نفسية عملت مع أم لشابة في سن المراهقة. كانت منشغلة جدًا بتربية أولادها وبناتها، وقد مرت بطفولتها بعدة صدمات نفسية جعلتها في حالة توتر وخوف دائمين على أولادها وبناتها. هذا الخوف جعلها تميل الى الحماية الزائدة مما أثر على أطفالها فهي لم تعطيهم أي مساحة للاستقلالية وتطوير مهاراتهم الشخصية، وكانت تساعدهم في كل شيء. هذه الأم تخلت عن ذاتها ومن هي في سبيل تربية أولادها وأخذت على نفسها دور الأم فقط، لكن كان هذا متعبًا وثقيلًا إذ لم تعد تعتمد على احد غير نفسها. خلال الجلسات العلاجية وبعد إعطاء مساحة للأم لتختبر من هي، استطاعت أن ترى احتياجات أولادها العاطفية التي لم تتمكن من رؤيتها من قبل وأيضًا احتياجاتها العاطفية. بدأت تنظر لنفسها بطريقة مختلفة، تقدر ذاتها، وتعتني بنفسها ايضًا كي تتمكن من أداء دورها كأم بطريقة أفضل.

اذًا كيف تحددين من أنتِ، وترسمين حدودك بطريقة ترضيك؟ في كل موقف يطلب منك أن تعطي من نفسك ووقتك، بأي طريقة، وتشعرين بعدم راحة اسألي نفسك الأسئلة التالية:

  1. ماذا سيحصل لو رفضت هذه المرة؟
  2. هل يمكنك المساعدة في طريقة مختلفة تناسبك؟
  3. ما هي نوع المساعدة التي تشعرين أكثر بالراحة عند تقديمها؟

بعد ذلك يمكنك اتباع هذه الخطوات:

  1. قومي بالحوار الداخلي والتفكير بما ستقولين.
  2. كوني صريحة بطريقة لبقة.
  3. إن شعرت أن رد فعلك سيضايق من حولك، ذكري نفسك بأنك أخذت هذه الخطوات عن تفكير بنفسك ومن حولك، وأنك تشعرين بسلام مع ذلك.

في النهاية اهتمامك بنفسك وراحتك هي جزء من اهتمامك بعائلتك ومن حولك وبراحتهم ايضًا. سيزيد ذلك الاهتمام من شعورك بالرضا والاكتفاء الذاتي وستجدين قوة أكثر في داخلك. واختتم بمقولة لجبران خليل جبران يقول بها: “بين منطوق لم يُقصَد ومقصود لم يُنطَق تضيع الكثير من المحبة”، لذلك اعرفِ قيمتك، وماذا تقصدين وماذا تقولين لنفسك وللآخرين كي تحافظي على علاقة جيدة مع نفسك ومع من حولك وأتمنى أن تكون علاقاتك مكللة بالسلام والمحبة على الدوام.