الحروب من حولنا… والحروب في داخلنا

الذكاء العاطفي كجسر شفاء في العلاقة الزوجية في زمن الأزمات

بقلم أمل قموع جريس

مستشارة زوجية ومُرشدة والدية.

في زمنٍ تتعالى فيه أصوات القذائف أكثر من ضحكات الأطفال، وتتحول البيوت إلى ملاجئ شعورية، يعيش كثير من الأزواج حربًا مزدوجة: حربٌ تُبَث على الشاشات، وحربٌ صامتة في القلب. كل شريك يحمل داخله خريطة جراح لم تُروَ، وحنينًا إلى حضنٍ يُشعره أنه ليس وحده. هكذا، يعيش الأزواج حربًا موازية لا تقل قسوة: حربًا صامتة داخل العلاقة. فالخوف، التوتر، وانعدام اليقين لا يقفون عند حدود الخارج، بل يتسرّبون إلى العلاقة الزوجية ليختبر كل طرف هشاشته ويعيد اكتشاف ما يربطه بالآخر. في هذه اللحظات، لا يعود الحب مجرّد عاطفة، بل يتحوّل إلى سؤال وجودي: “هل تشعر بي؟ هل ما زلت هنا رغم العاصفة؟”.

الحرب الخارجيّة تكشف جراحًا قديمة لم تشفَ. الانتقاد القاسي أو الصمت المطبق بين الزوجين قد لا يكونان سوى صدى لآلام الطفولة وتجارب الرفض التي لم نتصالح معها. هنا تحديدًا، يصبح الذكاء العاطفي ضرورة وليس ترفًا، لأنه يمنح الأزواج قدرة على الاعتراف بالمشاعر دون خجل أو اتهام. الذكاء العاطفي يعني أن أعي مشاعري قبل أن أُلقي بها على الآخر، أن أتساءل: “هل أنا غاضب منك حقًا أم من خوفي وتوتري؟”.

في الأزمات، الشعور بفقدان السيطرة يتسلّل إلى قلب العلاقة. فجأةً، تنقلب التفاصيل اليومية إلى رموز للأمان: كوب القهوة، رائحة الصابون، موعد عودة الشريك إلى البيت. وحين تختفي هذه الطقوس، يشعر الأزواج أنّ شيئًا ما في هويتهم اهتزّ. الخوف من فقدان “العاديّ” يزرع قلقًا دفينًا ينعكس في سلوكيات العلاقة: التشبّث، التذمّر، أو حتى الانسحاب. لكن الأهمّ من هذه التصرّفات هو أن نفهم جوهرها: إنها صرخة خفية تقول “أنا بحاجة إليك”، “طمئنني أنّك هنا ولن تتركني”.

عندما يزداد الخوف، قد يتحوّل إلى اتهام: “لماذا تأخّرت؟ لماذا لم تتصل؟”، وقد يُساء فهم هذه الأسئلة وكأنها نقد دائم، فيما هي في حقيقتها بحث عن الطمأنينة. حين نملك شجاعة الاعتراف بخوفنا من الفقدان، يصبح الحديث صادقًا ومؤثّرًا. أن تقول لشريكك: “أنا خائف أن أفقدك”، هو بداية للشفاء وليس ضعفًا. “المحبّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج”، والمحبة هنا لا تعني المثالية بل الصدق والاحتواء.

الكتاب المقدس يذكّرنا أن الكلمة الطيّبة تفرّح القلب، وأن “الكلام الحسن شهد عسل، حلو للنفس وشفاء للعظام”. في العلاقة الزوجية، هذه الكلمات تتحوّل إلى جسور تواصل حين تضيق بنا السبل. في أوقات الأزمات، عندما نشعر أننا لا نملك السيطرة على شيء، يمكننا أن نختار كيف نتعامل مع مشاعرنا ومع شريكنا. قد لا نقدر على تغيير الأحداث، لكن يمكننا أن نُظهر حناننا ودعمنا لمن نحبّ.

حين يشعر أحد الزوجين بالخوف، قد يختار الصمت أو الانسحاب، وأحيانًا قد يندفع بالنقد أو المبالغة في التنظيم. هذه السلوكيات لا تعني دائمًا الرفض أو العدوانية، بل تعكس حاجة عميقة للأمان. هنا يبرز دور الذكاء العاطفي: أن نتعلّم التمييز بين القناع والجوهر، أن نسأل: “هل أنا غاضب فعلًا أم خائف؟”، “هل ألومك أم أبحث عن قربك؟”.

عندما تتحوّل العلاقة إلى مساحة آمنة لقول الحقيقة دون خجل، يصبح الزواج ملاذًا شعوريًا وليس مجرد عقد قانوني. أن تسمح لنفسك أن تقول: “أنا أحتاجك أكثر هذه الأيام”، “أنا خائف، أرجوك ابقَ قربي”، هو فعل شجاعة ومحبّة. في المقابل، عندما يختار الطرف الآخر الإصغاء دون محاولة تصحيح أو تبرير، يتحوّل الخوف إلى فرصة تواصل عميقة.

الأزمات تكشف لنا أيضًا وهم السيطرة. في الأيام العادية، نعتقد أننا نتحكّم في تفاصيل الحياة، لكن حين تأتي الحروب، ندرك هشاشتنا. هذا الإدراك، رغم ألمه، قد يكون بابًا نحو التواضع والرحمة. أن تعرف أنك لا تتحكّم في كل شيء يجعلك أكثر تعاطفًا مع نفسك ومع شريك حياتك. هنا تظهر قوّة الإيمان والاتكال على الله، إذ يقول الكتاب المقدس: “سلّم للرب طريقك واتكل عليه وهو يجري”.

في قلب العلاقة الزوجية، الذكاء العاطفي لا يعني غياب الخوف، بل القدرة على الاعتراف به ومشاركته دون أن يتحوّل إلى هجوم. أن نتعلّم كيف نسأل عن مشاعر بعضنا: “شو اللي صعّب عليك اليوم؟”، “شو محتاج مني؟”، “كيف فيني أكون دعم إلك؟”. هذه الأسئلة الصغيرة قد تكون أكثر نفعًا من ألف نصيحة.

وحين يعود الروتين، لا ينبغي أن ننسى ما تعلّمناه. أن حضورنا الصادق، لا مثاليّتنا، هو ما يصنع الفرق. أن نقبل هشاشة بعضنا البعض. أن نعطي أنفسنا الإذن لنشعر دون جلد ذات.

ولكي نحافظ على هذا الملاذ الزوجي، نحتاج إلى ممارسات يومية بسيطة: لحظة صمت مساءً لاحتضان تعب اليوم، كلمة طيبة في الصباح لتذكير الشريك أنه ليس وحيدًا، دعاء مشترك لنجد في الله سندًا حين تهتزّ الأرض من حولنا.

في النهاية، الحرب قد تأخذ من الأزواج أشياء كثيرة: الشعور بالأمان، الروتين، اليقين. لكنها لا تستطيع أن تنتزع قدرتهم على الاختيار بأن يكونوا هنا معًا. حين يقول أحد الزوجين: “أنا معك رغم الخوف”، يتحوّل القلق إلى طمأنينة، والصمت إلى دفء.

إن الذكاء العاطفي هو الجسر الذي يعبر عليه الزوجان من الخوف إلى اللقاء. هو القبول بأننا بشر قابلون للكسر، وأننا لا نحتاج إلى إخفاء ضعفنا. بل إلى أن نُظهره لبعضنا بعضًا في ثقة صادقة. وحين نفعل، يتحوّل الزواج إلى أعمق مما كنّا نتصوّر: مساحة يجد فيها القلب السلام الذي لا يستطيع العالم أن يمنحه… ولا أن ينزعه.