بقلم ميرنا جورجي

إيمان يتحدى الواقع والظروف، ايمان ينال شهوة القلب

 

نقرأ في متى 15: 21-28 ومرقس7: 24-30 عن امرأة كنعانية لم يُذكر اسمها، لكن التصق بها وصف حالة ابنتها: “كان بابنتها روح نجس”، ومن ثم يسرد لنا الكتاب المقدس أنها أممية وفي جنسها فينيقية سورية. سَمِعت عن وجود يسوع في الكورة وعن قدرته العجيبة في الشفاء وما كان منها إلا أن تصرخ إليه لتنال سؤل قلبها، شفاء ابنتها.

من خلال التأمل في هذه القصة نشعر أنها حادثة صعبه قد تثير التساؤل في أذهاننا والقلق في نفوسنا والاستعجاب من كلمات يسوع لهذه المرأة. لذلك سأقوم بالتأمل في أحداث وتفاصيل هذه القصة مُحاولةً عرض ما قد مَرّ على هذه الكنعانية.

 

التحديات التي واجهت هذه المرأة:

* كان الفينيقيون يسمّون أنفسهم كنعانيين، وهذا الشعب ملعون، وهم من أكثر شعوب الأرض شراً، وقد لعنهم أبوهم نوح ” مَلْعونٌ كَنْعان! عَبْدًا يَكونُ لِعَبيدِ إِخوَتِه ” (تكوين9: 25). لقد انتمت الى شعب يعج بالرجسات والخطيئة واللعنة.

* كانت أممية فينيقية سورية أي أنها ليست يهودية ولا تنتمي الى نسل ابراهيم أو داود، ولربما أنها عرفت القليل عن المسيح المخلص الآتي من نسل داود.

* توقيت خاطئ: لقد وصلت المرأة عندما أراد يسوع أن يبقى بعيدا عن الأنظار وأراد أن يرتاح مع تلاميذه بعد جهودهم التي بذلوها مسبقا (مرقس 6: 56-55)

* واجهت طلبها بصمت من قبل الرب يسوع.
* علمت أنه بصراخها تزعج التلاميذ.

* سمعت رد يسوع لتلاميذه الذين طلبوا صرفها.

* تلقت رد قاس من يسوع.

فعلا لقد واجهت الكنعانية العديد من التحديات والظروف التي قد يكون من الممكن أنها أحبطت إيمانها لنوال مطلبها ولتحقيق المعجزة التي طالما انتظرتها.

لكن إيمانها كان أقوى وإصرارها أعظم. فقد تحدت كل هذه العقبات ولم تسمح لظروفها أن تقف في طريقها لنوال الشفاء لابنتها.

فقد كُتب أنها “خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ” العبارة التي تشير إلى ترك نجاسات تلك البلاد ومن محيطها المنغلق على ذاته والوثني لتلتقي بالمسيح.

نادت المرأة المسيح بلقب ابن داود رغم أمميتها، ووافقت على اختبار ايمانها لكي تنال مطلبها. وما الاختبار الا طريقة الله في مبادرته بالخلاص (افسس2: 11-18).

اعتبر يسوع نفسه مرسلا بالدرجة الاولى الى بيت إسرائيل، ثم بعد موته وقيامته يُبشَّر الوثنيين بالخلاص (متى 8: 5-13). وما التخصيص إلا مرحلة من المراحل نحو توسّع عالمي أشمل في خطة خلاص الله. ونستطيع القول إن هذه المرأة عجّلت بفتح باب الخلاص للوثنيين.

وكان ردها على صمت المسيح هو الإصرار على نوال مطلبها بصيحة استغاثةٍ في الشفاء تخرج من قلب الأمّ المحبّة لأن ابنتها تتعذّب عذابًا أليمًا.

 

استخدم المسيح أسلوبا تصويريا في تقديمه مثلا أُمميا (عن الكلاب والبنين) لامرأة أُممية، وبحكمة قالت المرأة “نَعم، يا رَبّ!” عبارة تشير الى موافقة المرأة الكنعانية على كلام يسوع كجواب لإيمانها به. ويعلق القديس أوغسطينوس على معنى كلمات هذه المرأة: “إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا”. اعترفت المرأة بأولوية اليهود في الدخول الى الخلاص. أما عبارة “صِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها” فتُشير إلى جوابها الذي هو قرارها الدخول في شعب الله وأن يكون لها ما للأبناء.

لا شكَّ في أنّ جواب المرأة يدلّ على ذكائها الحادّ وتواضعها العميق، ولكنّه يُظهر بصورةٍ جليّة إيمانها الرائع بشخص يسوع وقدرته الإلهيّة على قهر الشيطان، وبمخطّطه الإلهيّ في خلاص البشر.

 

لقد قدمت لنا المرأة الكنعانية الصفات المطلوبة حتى ننال شهوة القلب، ومفاتيح لاستجابة الصلاة، ألا وهي الإلحاح والتواضع والثقة والإيمان وكشفت هذه المرأة عمق إيمانها أمام تحديات يسوع والظروف، فقد استعمل يسوع هذه المرّة كلمات جافية إذ يشبّهها بالكلاب التي لا يجوز لها أن تأكل من خبز البنين، مثالاً لتلاميذه لكي يتحرّروا من التزمّت العنصري اليهودي ويذهبوا إلى العالم الوثني بعد موته وقيامته.

 

أختي، صديقتي، تأملي معي هذه التحديات، فقد تكونين الآن تحت وطأة ظروف وأحداث قاهرة خارجة عن سيطرتك، وقد تمرين أو مررت سابقا بتحديات مشابهة ومختلفة. ولتسألِ نفسك، عند أي عقبة كنت ستتنازلين؟ او تيأسي وتحبطين؟ وعند أي تحد كنت ستكفين عن الصلاة والصوم والصراخ للرب؟
أعتقد أن ما منع هذه الكنعانية من الكفّ عن الصراخ والاستغاثة هو حبها الكبير لابنتها ورغبتها الصادقة في شفائها وتحريرها. وصلاتي أن تكون لنا نفس الرغبة الملحة حتى نتغيّر رغم العادات والتقاليد والظروف التي اعتدنا عليها، وأن نملك المحبة الصادقة لأقربائنا لينالوا الخلاص والتحرير، فلا نكف عن الصلاة والصراخ إلى الرب ليمنحنا سؤل قلبنا، ونفرح بخلاصهم وتحريرهم ولنتمتع بمكافئة الرب لنا بتعظيم إيماننا وشهادته لنا في هذه الحياة وفي الأخرى أيضا.