بقلم القس الدكتور منذر اسحق
عندما أفكر في المرأة الفلسطينية، أفكر في التضحية والعطاء والصمود. أفكر في القرويّة التي تصحو باكراً في الصباح من أجل الحصاد ومن ثم تذهب للمدينة لكي تبيع محصول الأرض. أفكر في المعلمة التي تجتاز الحواجز من أجل الوصول للمدرسة التي تعلم بها. أفكر في الطبيبة والمهندسة والأستاذة الجامعية. أفكر أيضاً في نضال المرأة الفلسطينية في الانتفاضة الأولى، حيث كانت السّباقة في المسيرات والفعاليات الشعبية. وما زالت صورة المرأة التي تصارع الجندي الإسرائيلي لمنعه من اعتقال ابن البلد في مخيلتي.
إذا استخدمت وسائل البحث على الشبكة العنكبوتية للبحث عن موضوع مشاركة المرأة في بناء المجتمع، تجد أن التركيز مُنصبٌّ على مساهمة المرأة في البيت – أو المرأة الأم. هذا طبعاً أمر نستطيع تفهمه. الأم والتضحية مترادفان. ودور الأم في تربية الأجيال دورٌ لا يمكن التقليل من أهميته. الأم فعلاً عمود المجتمع. ولكن أتساءل هنا: أليست التربية من مسؤولية الرجل أيضاً؟ والأهم من ذلك، لم هذه النمطية التي تربط المرأة فقط بالبيت أو التربية؟ هل يتعلّق دور المرأة في بناء المجتمع فقط بدورها كأم؟
هناك أيضاً من يحصر دور المرأة في القضايا التي تخصّ المرأة وحقوقها. فندعو المرأة لتشارك بندوات نسائية عن… المرأة! أو أن تكتب مقالاً في مجلة نسائية عن… المرأة! وكأن تخصص المرأة هو فقط المرأة! أو أن المرأة يمكنها أن تخاطب فقط المرأة، أو أن تتكلم في مواضيع التربية والأمومة والعلوم المنزلية. أليس هذا تقليلٌ من شأن المرأة؟
تساهم المرأة في بلادنا اليوم في بناء المجتمع في عدة طرقٌ ومجالات، بل وأثبتت كفاءتها وقدرتها على أخذ مواقع قيادية. لدينا اليوم السياسيّة والمفاوضة والوزيرة والمحافظة ورئيسة البلدية. ولدينا أيضاً الطبيبة والأستاذة الجامعيّة والمهندسة والمديرة والمعلمة والضابطة العسكرية. يجب علينا إذاً أن نكسر النمطية السائدة عن دور المرأة في المجتمع لنشدد أن دورها لا يجب أن يختلف دائماً عن دور الرجل. وهذا ينطبق على الرجل والمرأة. بعبارة أخرى: المرأة أيضاً عليها أن تكسر هذه النمطية وتسعى لأخذ مساحات جديدة في مساهمتها المجتمعية. يقولون: “وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة”. أتفهم القصد من هذه المقولة، ولكنني أخشى في الوقت ذاته أن مثل هذه المقولة سيحصر دور المرأة في دعم رجلها، وكأن مكانة المرأة فقط هي وراء الرجل. وأخشى أيضاً أن تكون المرأة أحياناً هي من قبلت على نفسها بهذا الدور.
يقول الكتاب المقدس في سفر الأمثال: “اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ اللآلِئَ… تَطْلُبُ صُوفًا وَكَتَّانًا وَتَشْتَغِلُ بِيَدَيْنِ رَاضِيَتَيْنِ… تَتَأَمَّلُ حَقْلاً فَتَأْخُذُهُ، وَبِثَمَرِ يَدَيْهَا تَغْرِسُ كَرْمًا. تُنَطِّقُ حَقَوَيْهَا بِالْقُوَّةِ وَتُشَدِّدُ ذِرَاعَيْهَا. تَشْعُرُ أَنَّ تِجَارَتَهَا جَيِّدَةٌ. سِرَاجُهَا لاَ يَنْطَفِئُ فِي اللَّيْلِ. تَمُدُّ يَدَيْهَا إِلَى الْمِغْزَلِ، وَتُمْسِكُ كَفَّاهَا بِالْفَلْكَةِ. تَبْسُطُ كَفَّيْهَا لِلْفَقِيرِ، وَتَمُدُّ يَدَيْهَا إِلَى الْمِسْكِينِ.” (أمثال 10:31-20)
عندما تكلّم الكتاب المقدس عن المرأة الفاضلة، تكلّم عن المزارعة وصانعة الملابس والتاجرة. وتحدث أيضاً عن المرأة التي تعتني بالفقراء والمساكين. أي أن المرأة الفاضلة بحسب الكتاب المقدس هي ليست فقط الأم التي تعتني ببيتها، بل هي أكثر من ذلك بكثير. هي المرأة العاملة والمفكرة والمدبرة لنواحي متعددة تبدأ بالبيت وتمتد إلى قضايا المجتمع.
لابدّ لي هنا أن أخاطب موضوع مساهمة المرأة في الكنيسة وفي بناء المجتمع من خلال الكنيسة. بداية، لا يمكننا أن ننكر مساهمة المرأة وخاصة الراهبات الفاضلات في عمل الكنيسة وفي تطوير المجتمع من خلال التعليم والعمل الاجتماعي. أكتب هذه الكلمات على وقع الاحتفال بالراهبتين القديستين الفلسطينيتين ماري غطاس ومريم بوادري، واللتان أمضيتا حياتهما في خدمة الله والكنيسة والمجتمع. لم تقتصر مساهمة هاتين القديستين على الصلوات والعمل الكنسي، بل كرسن حياتهن للتعليم وللعناية باليتامى والفقراء والعمل الخيري التطوعي. ليتنا – رجال ونساء – نتعظ من مثالهما.
ولكن من يراقب حال كنائسنا اليوم، سيلاحظ أن دور المرأة في الغالب وبشكل عام محصور جداً. يقتصر دور المرأة في العديد من الأحيان على تعليم الأطفال أو أمور الضيافة. المرأة تعلّم في اجتماع النساء فقط. وكثيراً ما يكون دورها حتى في اجتماع النساء متعلقاً بأمور المرأة والتربية والبيت. ليس المجال هنا للخوض في نقاشٍ لاهوتيّ عن موضوع “رسامة المرأة”، وليس الهدف من هذه المقالة تحدّي العقائد الكنسية في هذا الموضوع. ولكن في نفس الوقت هناك مجالاتٌ عديدة داخل الكنيسة يمكن أن تساهم من خلالها المرأة. هل نقبل أن تقود المرأة درس الكتاب؟ هل نشجّع المرأة على دراسة اللاهوت والكتاب المقدس ونيل شهادات عليا فتكتب وتساهم في علوم اللاهوت والكتاب المقدس؟ هل ندعو المرأة لتحاضر لنا في علوم اللاهوت والتأويل وتفسير الكتاب؟
نلاحظ أيضاً أن معظم اللجان والمجالس الكنسية المتعددة تتشكل في الغالب من الرجال. هنا أيضاً يمكن للمرأة المشاركة والمساهمة بمواهبها وقدراتها المتعددة، من إدارة عامة وإدارة موارد وتخطيط وحتى بناء الجسور وحل النزاعات. لنذهب إلى سفر الأمثال من جديد، فهناك يقول عن المرأة الفاضلة: “تَفْتَحُ فَمَهَا بِالْحِكْمَةِ، وَفِي لِسَانِهَا سُنَّةُ الْمَعْرُوفِ”. حان الوقت لتكون المرأة جزءٌ من اللجان والمجالس الكنسية المتعددة، فتساهم بحكمتها وبصيرتها في وضع الرؤية والخطط، ولا تكون فقط المتلقية للقرارات والرؤى.
أخيراً، وبكتابتي لهذه الكلمات في هذا المقال، أضع نفسي كرجلٍ عرضة للمحاسبة. إذا كنت أتوقع من زوجتي أن تكون مهندسة متفوقة تساهم في بناء البيت والمجتمع، فيجب عليّ في ذات الوقت أن أتحمل مسئوليتي كأبٍ وزوج. على الرجال أيضاً كسر النمطية السائدة عن دور المرأة والرجل في البيت وفي خارج البيت، إذا أردنا فعلاً أن تساهم المرأة في أخذ دورها في بناء المجتمع. التربية مسئولية مشتركة، وكذا بناء المجتمع.