بقلم داليا مُرّة.
محنتي تمثلت بموت زوجي، وبموته أدركت أن هناك بكاء دون دموع، وصراخ يمزق الحنجرة دون أن يُسمع.
ولا يختلف اثنان على ان موت الزوج صدمة مدمرة للزوجة خاصةً إن كان موته مفاجئا كما في حالتي. فمن هول الصدمة، فقدت صوابي وتوالت أيام عذابي، وانقلبت حياتي رأسا على عقب. لكن قوة الحياة بداخلي كانت أقوى خاصة مع وجود أطفال أصبحوا بعوز شديد لي.
فرغم أنني عشت ايام ولا زلت اعيشها بمشاعر تسودها المرارة وألم الفراق، في وسط عالم صعب ومجتمع قاسٍ جداً ولا يرحم. صحوت من صدمتي واستدراكي لموت زوجي المفاجئ، ونهضت وواجهت الواقع.
بدأت أتساءل بماذا سيُجدي البكاء واستمرار النواح أمام طفلين عيونهما كانت تبحثان في أجوائنا عن الأمان وعن طريقة لاسترداد الأمل في المستقبل، وكيانان صغيران يبحثان عن تسديد احتياجاتهما من الحنية والعطف كان يوفرهما لهم والدهما. لذا لم أستمر في جلوسي ولم أمكث طويلاً في قوقعة الألم واليأس، بل صممت رغم المعاناة على استكمال المشوار وحمل المسؤولية.
بدأت بعدها استرجاع ذكرياتنا الجميلة وحنيني إلى أيامٍ لن تمحوها فقدانه، وملامحه تراود دائماً مخيّلتي وأراها حينما أنظر في وجوه أطفالي (ميشيل 7 أعوام وخالد 3 اعوام )، راجيةً أني يوماً سأستطيع استكمال أحلامنا معاً التي كنا نطوقها لأولادنا.
في مسيرتي اكتشفت أن الغضب والغيظ قد يُوجّهاني ويخلقان فيّ دافعاً قويّاً، ولكنني تساءلت ماذا يمكن أن ينتج عن حزني؟ وجدت أن الحزن وجّهني نحو التأمل العميق، والغوص في أعماق نفسي وطبيعة دنيانا. وكأن في الحزن محرك لطاقات الروح التي تدفعني للإبداع، واكتشفت في داخلي مياه راكدة لم تهتز ولم تتحرك إلا بعد المحنة.
وهكذا بدأت رحلة تحوّلي، فاكتشفت أن الشيء الوحيد الذي أصبح يجعلني قادرة على الاستيقاظ كل يوم والتعامل مع الحياة، هو ايجادي لهدف وشيء أحبه وهذا ما دفعني نحو الرسم والفنون. فعزمت على جمع ألواني وأقلامي وفرشاتي ولوحاتي، وخضت بتحدي نفسي على إتمام رسم لوحة خيل كبيرة، قد اعتراني صراع كبير ما بين خوفي من الفشل ورجوعي لنقطة الصفر وبين تحقيق الانتصار وإنقاذ نفسي وأولادي.
في رحلة شفائي التي لا زالت قائمة، كنت ولا زلت أتعامل مع مشاعر مضطربة أثر الصدمة والفقدان. ومع ذلك رفضت أن أتناول حبوب الاكتئاب وصممت أن أعيش مشاعر حزني بالكامل. فقد اعتراني الفراغ في الفترة الأولى من الفقدان، لكني آمنت أننا كمتألمين علينا أن نحزن ونبكي إلى جانب أن نعمل ونكد ولا نستسلم. وطبعاً لا بد من طلب المساعدة إن احتجنا إليها. فلولا الحزن المكتوم والمؤلم لما تحرّك شغفي ونطقت أدواتي بالإبداع وما تحرر قلبي من مأساتي وما انتظمت دقاته وعُدت للحياة، واستمريت بالعطاء. فرويدا رويدا عدت إلى عملي كسابق عهدي وشرعت ببدء مشاريع جديدة، فالتحقت ببرنامج تعليمي لطالما أردت أن أستكمله ليؤمّن لي مركزاً وظيفياً أفضل، وأثبت لذاتي من خلال شتى الميادين التي شاركت بها أنني قادرة على العمل وتحقيق ذاتي. ورغم ألم الترمل، إلا أنه علّمني أن أكون صلبة في مجتمع ظالم وأثبت أن الأرملة يمكنها أن تعيش في ظلها.
وبالنهاية في رحلتي أدركت أن للحزن فوائد، فهو يجعلنا اكثر نضجاً وهو يقوينا لمواجهة الحياة وتحدياتها. فقد اصابتنا هذه الفاجعة وعلمتنا الكثير، “ما لا يقتلني يقويني”، فلم أسمح للحزن أن يقتلني بل اتخذته معلماً. فلم نعد بهذه السذاجة التي رسمناها بمخيلتنا أن الحياة باقة زهور، فمع الزهور لا بد من الاشواك التي تجمعنا مع من يحبوننا بصدق.
قصتي مثيلة بالعديد من النساء اللواتي فقدن ازواجهن وناضلن في الحياه لاستمراريتها، رسالتي لهن مهما كان الطريق الذي تودي ان تسلكيه، اجعليه يُميّزكِ، وتذكري انه من الجميل ان نحلم لكن الاجمل ان نمشي ونخطو اتجاه تحقيقه.
وبالنهاية ابداعي هو نافذة يطل منها الحزن دائما، ويتجلى كصورة في أبهى حلتها، حتى نكاد ننسى عندما نرى التحفة الفنية أن كل هذا الجمال كان في الاصل حزنا.
وأخيراً لك حنا أقول:
“لم أُشفى من حساسية اللون الأبيض حتى الان. فعندما أضعه على ريشتي، تعترش ذكراك على جدران قلبي كياسمينة دمشقية، ويبدأ قلبي بنقش ملامح وجهك المماثل لضوء القمر.
كيف أنساك وأنا أبحر مع ألواني في بحر الظلمات؟
كيف أنساك وألواني تنزف دماً فوق اللوحات؟
كيف أنساك وأنا الذي حاربت مع ألواني طوال هذه الحياة؟
إن ألواني تعزيني على فقدانك، فهل لفرشاتي وألواني القدرة على نسيانك؟”