من خلف شاشات السينما إلى حصاد النفوس.

قصة لونا مطر

نشأتُ في عائلة مُحبّة، لوالدين عاملين مشغولين دائما في تأمين حياة كريمة لنا. الابنة الثالثة بين أربع بنات، خلال نشأتي بين عائلتي لطالما رافقني الشعور بأنني غير مرئية، فلم أكن تلك الفتاة المميزة في المدرسة، ولم تكن لي شعبيّة بين أبناء جيلي ولم أطوّر في مراحل نموي أي موهبة  تُذكر، ولكنني كنتُ طفلة حالمة. 

حين أنهيت الفترة الثانوية، بدأتُ رحلة بحثي عن معنى وهدف وجودي، وجزء كبير من بحثي كان محاولتي لخوض تجربة روحية شخصية، فبحثت كثيراً في عدة مذاهب وديانات مبتعدة قدر الإمكان عن المألوف.  ليجدني الرب من خلال بحثي وتوهاني ليُريني الطريق الذي بحثت عنه، وأبدأ معه الرحلة. 

وحينما بدأتُ دراستي الجامعية في تخصص السينما والصورة المتحركة، وانتقال مكان سكني إلى الجنوب بعيدة جغرافياً عن الكنيسة، انشغلت في تلك الفترة مع مجموعة من الأصدقاء السينمائيين في مشروع أسميناه “فلسطينما” اشتهر آنذاك وكانت العروض ناجحة في رام الله ويافا وحيفا والناصرة، وأحدث مشروعنا نجاحا غير متوقع.  لكني تراجعت حين تلقيت اتصالا من صحيفة معروفة لإجراء مقابلة معي حول المشروع. واجهت نفسي حينها بسؤال: “طيب وهلا لوين؟” لأعود من جديد لأبحث عن معنى لحياتي، فهل الشهرة هي ما أبحث عنه؟ وخلال حيرتي وصراعي الذاتي أدركت أني قد أهملت جانباً من حياتي، وتوصلت بأني نعم قد احرزت نجاحاً ولكني ما زلت أشعر بفراغ، و استدركت حالتي وبعدي عن الله والشركة الحميمة معه. فقررت تغيير مسار وبدأت حياتي نقطة تحول جديدة، انسحبت من العمل السينمائي واعتذرت لزملائي. وقررت أخذ فترة من حياتي مدتها سنة، فيها ابتعدتُ عن العالم وكرستها لرحلة روحية طالبة الاقتراب والمعرفة العميقة لإلهي. وصليت كثيرا حينها طالبة منه أن يُسخّرني بجُملتي لخدمته. 

خلال هذه الفترة كنت أعمل على مشروعي النهائي في التعليم، كنت خلالها أطلب توجيهات الرب في كل القرارات الصغيرة والكبيرة، لأقوم بإنتاج فيلمي الأول “ليلى” في وقت ضيّق جدا، وبينما كنت أعمل على كتابة سيناريو الفيلم، تلقيت رسالة من أمي تحتوي على آية من أشعياء 12:38 “لَفَفْتُ كَالْحَائِكِ حَيَاتِي. مِنَ النَّوْلِ يَقْطَعُنِي”، وقد تطابقت الآية التي لم أكن أدرك وجودها في الكتاب مع فحوى الفيلم الذي يتحدث عن( شَعَر ليلى) ويُجسّد واقع المرأة حبيسة المجتمع الذكوري،  فنرى تسلسل الأحداث التي تتجلّى في قص ليلى لشعرها الطويل لتخرج عن صمتها وتقرر مواصلة حياتها خارج القفص المُعدّ لها من قبل المجتمع. وقد أحرز الفيلم القصير نجاحاً باهراً في مهرجانات محلية ودولية. فرحتُ في هذا الإنجاز والتميّز بقدر امتناني للسيرورة إتمام هذا العمل، وقد كنت أعلم تماما أنني بدون معونة الرب وتأييده لجهودي لما تمكنت من النجاح.

لم يُبهرني النجاح ولم يتمكّن من الإمساك بمستقبلي، بل كانت عيناي على الهدف الأسمى الذي كنت أسعى إليه. فقد أدركت أني مدعوّة لتكريس نفسي للخدمة.  فوجدت نفسي مع مجموعة من الأصدقاء نُخطط ونحلم كيف لنا أن نخرج مع أبناء جيلنا المؤمنين من منطقة الراحة منطلقين نحو الخدمة، فبادرنا مع “خدمة السفراء” بحثّ الشباب والصبايا للخروج من الكنيسة إلى المجتمع، وحاولنا الوصول إلى المجتمع وخدمته بطريقة عملية، من خلال الأعمال التطوعية في بعض المؤسسات وكذلك توزيع منشورات مسيحية. بقيت في هذه الخدمة لفترة زمنية، إلى أن قررت أن أتركها، لم أعلم السبب آنذاك، ولكني أدركته فيما بعد.

من بعض الخدمات التي بدأت بها، كانت التطوع مع أطفال اللاجئين مع “خدمة أطباء بلا حدود” ومؤسسات مسيحية. الأمر الذي كشف جوانب جديدة في شخصيتي لم أكن أعي لها من قبل، وهي مثلاً أنني شخصية اجتماعية أحب التعامل مع الناس وبالأخص المحتاجين.

بعد فترة من خدمتي في وسط اللاجئين، وُجدت حاجة في الرابطة المعمدانية لمنسق عمل لخدمة الشباب، تم إقتراح اسمي لأملأ الاحتياج، وبدعم من راعي كنيستي، بدأت رحلتي مع خدمة الشباب وتحدياتها. ولكنني كنت على الدوام أتمنى العودة بأقرب وقت لخدمات اللاجئين التي كانت مُرضية أكثر بالنسبة إلي. حينها اعترض صوت الرب طريقي بتوجّه واضح من خلال كلمته بأنني مدعوّة لأخدم شعبي: “هأنذا قد جعلت وجهك صلبا مثل وجوههم، وجبهتك صلبة مثل جباههم” (حز3 :8). فأطعته وسلمت له الدفّة، و اشتعل قلبي متوهّجهاً  بغيرة نحو هذا الجيل، الذي هو حاضر ومستقبل الكنيسة، وما زلت أقوم بمهمتي في خدمة الشباب بين الكنائس إلى يومنا هذا.

على الرغم من التحديات والصعوبات الكثيرة، ما زالت رحلتي مستمرة، فأنا أواجه تحديات عامة مختلفة، وهناك تحديات شخصية أيضاً،  فأنا أعاني من مشكلة في التركيز ولدي رفض لعلاجها فقط من خلال الأدوية، ما يُشعرني في كثير من الأحيان بالعجز وعدم القدرة على التواصل الصحيح مع الأشخاص. وذلك يؤثر على قدرتي في الاستمرار، واحيانا أصل إلى حد اليأس وفقدان الرؤية. ولكن هذه الصراعات هي جزء من الرحلة، تذكرني دائما بضرورة الاعتماد على الرب وعلى نعمته، فاخترت أن أؤمن بأن قوته في الضعف تتجلى وتكمل. كما قالها بولس الرسول: “فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي، لكي تحل علي قوة المسيح”( 2كور 12: 9).

رسالتي لكِ اليوم أن لا تيأسي من تحديات حياتك، وثقي برحلتك وحتى لو طالت وتغيّرت مساراتكِ فتأكدي من إرشاد الرب إن طلبتي توجيهاته. وتذكري أن الرحلة قد تكون شائكة، إلا أن النتيجة تستحق وستُعاينين ثمار جهودك.