بقلم أميرة فرهود.
بحذاءٍ خفيف أو حافية القدمين، مرتديةً رداءها الأبيض بخطوطه الزرقاء، جابت العالم كلّه لمساعدة الفقراء والمحتاجين، وحتى الأطفال الأجنّة الذين لم يولدوا بعد، دافعت عنهم بكل ما أوتيت من قوّة. ترين في وجهها تجاعيد وثنايا كثيرة تحكي قصصاً مؤلمة، من مرضٍ وألمٍ وموت وفقدان. وابتسامة خفيفة تُزيّن وجهها تحكي عن أملٍ ومحبة وصبر نادر الوجود. كلما تُذكر أمامكِ كلمة عطاء أو بذل الذات أو المساعدة، لا تستطيعين إلّا أن تتذكري ذلك الوجه وتلك الأم الرائعة والمُضحية… الأم تريزا…
بداية القصة…
وُلدت آغنيس غونكزا بوجاكسيو أو الأم تريزا في ال 26 من آب عام 1910 في سكوبي، مقدونيا الآن، من والدين ألبانيين. التحقت وهي في ال 18 من عمرها بسلك الرهبنة وأخذت اسم “الأم تريزا”، وانتقلت بعدها إلى كلكوتا في الهند. في العام 1948 بدأ اهتمام الأم تريزا بالعناية بالأطفال المهملين، وعندها قررت أن تخلع زي الرهبنة، وأن تلبس مكانه الساري الهندي القطني بلونه الأبيض وخطوطه الزرقاء.
في مقابلة تلفزيونية معها، أخبرت الأم تريزا العالم عن نقطة التحوّل في حياتها وفي خدمتها. وقالت إنها في يوم من الأيام التقطت امرأة على حافة الموت من الشارع وكانت الفئران تنهش في جسدها، حملتها وذهبت بها إلى مشفى قريب وهناك رفضوا استقبال هذه السيدة. وعندها قررت الأم تريزا أن تجد بنفسها لمثل هؤلاء الأشخاص ملجأً يحميهم ويرعاهم.
رهبنة المبشرين بالمحبة…
كانت تُردد وباستمرار هذه العبارة: “أن تُدر ظهرك للفقراء أي أن تُدر ظهرك ليسوع المسيح”. وهي لم تُدر ظهرها أبداً لهم، بل استطاعت أن تقوم بعمل أمة كاملة لم تستطع أن تفعله لأنها أحبت بصدق.
قامت الأم تريزا بتأسيس رهبنة المبشرين بالمحبة، والتي تهتم اليوم بأكثر من مليون شخص مريض في مراكزها ال 200 حول العالم. أكثر من 50000 أبرص يسكنون وتتم العناية بهم طبياً في 50 مستوصف خاصة بالبرص تعود إلى الرهبنة.
الهدف من هذه الرهبنة كما قالت دائماً الأم تريزا هو العناية بالجائعين والعراة والمشردين والعاجزين والمنبوذين. كل هؤلاء البشر الذين يشعرون بأنهم غير مرغوب فيهم أو محرومين من العناية والمحبة. أولئك الذين يعتبرهم أفراد المجتمع عبئاً عليهم فيتجنبونهم.
كرّست العديد من الأخوات الراهبات حياتهنّ لخدمة المنبوذين يداً بيد مع الأم تريزا، أخوات لم يكن لديهنّ أي ضمان مادي أو حساب مصرفي، ولا أي وسيلة مضمونة للعيش، بل سرنَ مسلحات بالعناية الإلهية فحسب. والسبب: “بما أنّ عملنا يتم وسط الفقراء فلا بد من أن نكون نحن أنفسنا فقراء، حتى إذا ما شكوا من طعام، استطعنا أن نقول لهم: “نحن أيضاً نأكل منه”، وإذا ما تأوّه أحدهم ولم يعرف النوم إلى جفنه سبيلاً، استطعنا القول: “أجل، لقد كان الحرّ شديداً حقاً”.
أبداً لم يحتجن إلى شيء ولم يطلبن شيء ولم يأخذن شيئاً إلّا من ينبوع الماء الحي وخبز الحياة، لكي يحصلن منه بالمقابل على هذه القدرة للعطاء.
حوّلت الموت إلى حياة…
تعاونت الأم تريزا مع السلطات الرسمية في كلكوتا- الهند، وحوّلت جزءاً من معبد كالي “إلهة الموت والدمار عند الهندوس”، إلى منزل لرعاية المصابين بأمراض غير قابلة للشفاء والعناية بهم في أيامهم الأخيرة لكي يموتوا بكرامة. هي ببساطة حوّلت معبد هندوسي لإله الموت والدمار إلى منزل يشعّ نوراً ومحبة وقبول نابع من أتباع السيد المسيح.
امرأة مؤثّرة…
دعينا ننظر إلى هذه المرأة جيداً، هل كانت تحمل شهادات علمية عالية؟ هل كانت تنحدر من أسرة ملكية ثرية؟ هل كانت تحمل صفات معينة عالمية للجمال؟ لا… هل غيّرت العالم؟ هل تركت تأثيراً كبيراً لسنين طويلة؟ نعم… دون أن تحتاج لشيء دون أن تطلب شيء، كانت صلاتها الوحيدة المتكررة هي أن يجعل الله هؤلاء المحتاجين ينظرون إلى الأعلى وأن لا يروها هي، بل يروا المسيح الذي يشع نوراً ومحبة من خلالها.
ومُغيّرة…
استطاعت الأم تريزا أن تحصد قبول جماهيري وعالمي كبير من خلال الخدمة الرائعة التي كانت تقوم بها. ففي عام 1965 منحها البابا بولس السادس الإذن بالتوسع والعمل في كافة أنحاء العالم وليس فقط الهند.
ما لا تعرفينه عن الأم تريزا…
كانت القديسة الحية حاضرة للمساعدة والرعاية وإظهار المحبة الخاصة أينما تواجدت. ومن الأشياء الرائعة التي التزمت بها هذه المرأة أنها كانت ترفض أن تأكل عندما تكون في رحلة بعيدة عن كالكوتا، بل كانت تقتصر على شرب الماء، أينما تواجدت ومهما كانت مدة رحلتها.
ومن أعمالها المشهودة أنها استطاعت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 أن توقف إطلاق النار لمدة معينة إلى أن تمكن رجال الدفاع المدني من إنقاذ 37 طفلاً مريضاً كانوا محاصرين في إحدى المستشفيات.
في عام 1979 حصلت الأم تريزا على جائزة نوبل للسلام، وعند استلامها للجائزة التي تبلغ مئات الآلاف من الدولارات، ارتدت الساري الهندي الذي ترتديه في حياتها العادية، والذي يبلغ ثمنه دولاراً واحداً. كما أنها طلبت إلغاء العشاء التقليدي الذي تُقيمه لجنة نوبل للفائزين، وطلبت أن تعطى المبلغ لتنفقه على إطعام 400 طفل هندي فقير طوال عام كامل.
أنظري حولكِ…
الفقر هو ليس الحاجة فقط إلى طعام أو شراب أو ملجأ أو بيت، أنظري حولك جيداً، ستجدين الآلاف من الفقراء الذين احتياجهم ليس إلى الخبز بل إلى المحبة والحنان. الوحدة هي أكبر فقر يمكن أن يشعر به أي إنسان، الرفض فقر، عدم الحصول على المحبة والعطف والحنان هو فقر أيضاً. ابدئي الآن بالنظر حولك ابدئي من أقرب مكان إليكِ، لأنّ “المحبة تبدأ في المنزل”.