السوشال ميديا وكيمياء الدماغ  والتأثير النفسي

بقلم د. مدلين سهواني سارة

أخصائية تربية ومستشارة نفسية مسيحية

                  إن الإنسان بطبيعته مخلوق علاقاتي وهو بحاجة إلى التواصل مع الآخرين حتى يستمر بالازدهار والنمو والنجاح في الحياة. كما وأن نوعية هذه العلاقات وعمقها تؤثر بشكل رئيسي على صفاتنا النفسية الوجدانية، كما ورد في سفر الأمثال 27 “الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُحَدَّدُ، وَالإِنْسَانُ يُحَدِّدُ وَجْهَ صَاحِبِهِ”. لكن في ظل حياتنا المعاصرة واختراق التكنولوجيا لكافة المجالات مثل منصات التواصل الاجتماعي، فيس بوك، انستغرام، سنابشات، تيك توك، واتس آب وغيرها… كل هذا أدى إلى تغيير جذري في طبيعة وشكل العلاقات.

           نتيجة لذلك، أصبحنا نعتمد في المقام الأول على هذه المنصات للتواصل اليومي حتى لو تواجدنا في نفس الحيّز المكاني في المنزل والعمل. بالتالي قلّت تفاعلاتنا الوجاهية ولقاءاتنا الاجتماعية، وتواجدنا الفيزيقي (الجسدي المحسوس). نعم، بالتأكيد أصبحت الشاشات الالكترونية جزءاً رئيسياً وأساسياً وضروريّاً من طبيعة الحياة المعاصرة، إلا أن الاستخدام المفرط لهذه المنصات، أثّر ولا زال يؤثر على العلاقات بحيث يتم إشباع الاحتياجات في مجال العلاقات بشكل مؤقت ومنقوص. لأن الاحتياجات المعروفة في العلوم النفسيّة العصبية والتواصل الشخصي الذي يحفز إفراز كيمياء الدماغ في الجهاز العصبي هي التي تشكّل مشاعرنا وتؤثر فينا لتمنحنا الإحساس بالسعادة وتقلل من وطأة وحدّة أحزاننا وتوتراتنا. إن أهم كيماويات السعادة المعروفة هي هرمونات مختلفة مثل هرمون الاندروفين، وهرمون السيروتونين والدوبامين وما يتعلق بالعلاقات والتقارب الجسدي الاوكسيتوسين (هرمون المعانقة أو الهرمون الاجتماعي). وبينما بإمكاننا أن نحث إفراز هرمون السيروتونين بممارسة الرياضة، والاندروفين بمشاهدة المقاطع المضحكة، والدوبامين من خلال الموسيقى والتأمل، فإن الاوكسيتوسن لا يتم افرازه إلا من خلال اللمس والمعانقة. فنحن نحتاج للقاءات وجاهية حميمة مع الأصدقاء ومن نحبهم. فيذكر سفر الجامعة 4: “أَيْضًا إِنِ اضْطَجَعَ اثْنَانِ يَكُونُ لَهُمَا دِفْءٌ، أَمَّا الْوَاحْدُ فَكَيْفَ يَدْفَأُ؟” وهذا دلالة على دفء المشاعر والتي لا تأتي إلّا بالمعانقة والتلامس الجسدي. وقد كانت القبلة أيضاً في ثقافة الكنيسة الاولى معادلة للمصافحة والعناق والتحيّة الدافئة في يومنا، فوردت آية تحثّ على السلام الحميم، “سَلِّمُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ” (2 كو 13: 12).

        لكن ما يحصل اليوم لدى استخدامنا المكثّف لوسائل التواصل وقلة التواجد الفيزيقي هو قلة إفراز الاوكسيتوسن، وبالاضافة إلى قلّة الحركة المصاحبة لجلساتنا لساعات طويلة أمام شاشاتنا، والمقارنات الكثيرة التي نتعرًض لها من خلال البوستات والمنشورات، بتنا نفقد لهذه العوامل الضرورية لإفراز هرمونات السعادة المتنوعة، وبالتالي تفاقمت مشاعر الوحدة والقلق والتوتر التي بدورها تؤدي إلى الاكتئاب ومشاكل نفسية أخرى.

          هذا المقال لا يدعوكِ إلى التخلي عن السوشيال ميديا فهذا مطلب غير واقعي، لأن السوشيال ميديا لها إيجابيات أيضاً، وقد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة حياتنا كما ذكرت سابقا، ولكنني أسعى إلى توجيهكم للحفاظ على التوازن والعمل بشكل مقصود على إعادة البهجة والمودة والدفء والسعادة. 

                إن العالم الافتراضي لن يمنحك الرضا والإشباع الحقيقي الذي قد تحصلين عليه من التواصل الوجاهي، حيث أشارت العديد من الدراسات إلى احتمالية تزايد خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق ومشاعر الوحدة وتزايد حالات الإنتحار والتي يتسبب بها كل ما نتعرّض له اليوم وما يتم ترويجه عبر صفحات السوشيال ميديا، كالمنشورات التي تعكس صورة غير صحيحة ومشوهة من خلال إرسال انطباعات تشعرنا بالنقص وعدم الرضا عن أنفسنا وعن شكلنا الخارجي لأنها تعرض صورا مزيفة تؤشر الى حالة النقص الذاتية لكثرة الصور المفلترة التي تعرض بمعايير جمالية عالية للشكل والقوام الممشوق والبشرة النضرة. إن تعرُّضنا لهذه الصور يؤسس بداخلنا نواة الفشل وانعدام القيمة والإحساس بالنقص وبالتالي يتم الترويج إلى معايير جمالية غير واقعية ويصعب الوصول إليها، وكأن الوصول إليها هو ما سيأخذنا إلى النجاح والقبول والسعادة.

         رغم إدراكنا وفهمنا الواعي أن معظم ما ينشر ويعرض هو لقطات مقصودة ولربما مفبركة لأجمل وأروع وأسعد اللحظات، والأرجح أنها لا تمثل مجمل حياة هؤلاء الأشخاص ولا حتى الحقيقة. كما أننا جميعنا ندرك أن لا أحد يميل لنشر بوست لأتعس اللحظات أو أشدها إيلاماً (نادراً وهم الحقيقيون المؤثرون) فبالتالي معظم الناس تُتْرَك بمشاعر الحسد والحسرة أمام كل ما تشاهده عند الأصدقاء من لحظات سعادة وتألق ونجاح واحتفالات وتحقيق الإنجازات. فنعتقد أن الآخرين يحظون بحياة أفضل وأسعد وأجمل وأكثر إثارة ونجاحا منّا، فنتقوقع على أنفسنا ويتملكنا الحزن والحيرة والإحساس بالدونية والنقص.

        للأسف، إن الإدمان على استخدام هواتفنا الذكية أصبح خارج عن سيطرتنا، وأثر علينا تأثيرا مشابهاً لتأثير الإدمان على لعب القمار وشرب والكحول وتعاطي المخدرات فقد تأثرت قدرتنا على التركيز وعلى جودة نومنا وعلى أدائنا الوظيفي (أثرت على الأداء الدراسي والعملي)، وطبعاً على التفاعلات الأسرية الحميمة والضرورية.  فإدماننا مبني على إفراز الدوبامين، الذي يتم إفرازه في كل مرّة تتلقين إعجاب أو مشاركة بوست أو رد فعل وتعمل كمكافأة فيزيد من الوقت الذي تقضينه على الشاشة والهاتف.

      ان بعض دوافع استخدام السوشيال ميديا هو ما يسمى اليوم بـِ FOMO: fear of missing out، (الخوف من أن يفوتني خبر أو حدث أو حتى نكتة أو دعوة) وبالتالي قلق من الإستبعاد من قبل الزملاء أو الأصدقاء لأنك غير محتلنة. وهذا الهوس يصيب المراهقين حاليا، هذا عدا عن الخوف من زعل الآخرين حينما لا نعلّق أو نعطي إعجاباً أو ردة فعل على بوستاتهم.

           هذه الحلقة المفرغة من الإستخدام غير الصحي تتركنا أكثر هشاشة ووحدة وقلقا واكتئابا وتوترا بالإضافة إلى الملَل والضجر. وبالتالي صحتنا النفسية حالياً هي بانحدار.

إن للحالة النفسية تأثيرا مباشرا على الصحة الجسدية كالصداع وأوجاع العضلات وزوفان المعدة وارتعاش الجسم والقلق والأرق والشعور بآلام متنوعة في جسمك. 

          يوجد حالة نفسية أخرى وهي ظاهرة المحتال، وهي إحساس الشخص أنه غير مؤهل للعمل أو النجاح أو الترقية أو حتى المديح. فمن كثرة ظهور المتخصصين وغير المتخصصين للأسف والفيديوهات المنشورة والكم الهائل للنجاحات والإنجازات لؤلائك يرى الشخص نفسه أنه أقل شأنا مما يراه ويقيّمه كل من حوله، وينتابه الإحساس بالنقص والشك بقدراته وإمكانياته وحتى بكفاءة ما يقوم به وينجزه، ويعتقد أن الناس تراه “كمحتال”، ويشعر بعدم الإستحقاق، وأنه لا يملك من الذكاء أو الكفاءة كغيره. 

       إذن، كيف نشخص حالتنا النفسية بناءً على بعض العلامات التحذيريّة:

  • الشعور بتفاقم القلق ومشاعر الاكتئاب والوحدة.
  • مقارنة نفسك بالآخرين والشعور بالغيرة بتصفح المواقع.
  • ملاحظة تأثر عملك أو دراستك وحتى علاقاتك بشكل سلبي.
  • عدم الإعتناء بصحتك الجسدية (النوم الكافي وتمارين رياضية ومشاركات اجتماعية).
  • قضاء ساعات طويلة على الشاشة أكثر مما تقضينه مع العائلة والأصدقاء.

لذلك يتحتم علينا أن نخطط لأجل التغيير بناء على جدول متنوع يشمل:

  1. قضاء وقت في إنجاز مهام في البيت. تمتعي وابدعي في مملكتك واهتمي في الترتيب والديكور بأقل ميزانية.
  2. خططي وبشكل مقصود لتخصيص وقت للعائلة (قد يكون حول وجبة لذيذة أو قصص جيدة حول لعبة طاولة أو مشاهدة فيلم، أو مجرد أحاديث موجهة حول أحداث النهار).
  3. خصصي أياما وأوقاتاً لدعوة الأصدقاء للخروج وقضاء وقت خارج جدران المنزل، احتسوا القهوة وتشاركوا بالأحاديث البناءة ومشاركة النكت والقهقهات.
  4. كرّسي وقتاً للخدمة، فتعمّدي التطوع وتكريس موهبتك لخدمة الله والناس. اسألي وبادري عن احتياجات الكنيسة أو المجتمع الروحي الذي أنت جزء منه.
  5. تابعي وقلّصي من الوقت الذي تقضينه على المواقع (حدّدي هذا الوقت من خلال التطبيقات المساعدة).