صوت رجل

صوت القس د. جاك سارة

رئيس كلية بيت لحم للكتاب المقدس

عندما رجعت بذاكرتي إلى الوراء وبالتحديد بداية شهر آذار الماضي والذي كان مفصليا في حياتنا وقلبها رأسا على عقب، وجدت في جعبتي الكثير من التجارب والتأملات والمشاعر التي أستطيع نقلها إلى القراء. فعلى الرغم من قسوة المرحلة التي عايشناها والتي لا زلنا نعايشها، الا أنها تستحق التوثيق والتحليل والبحث عن كل تغيير طرأ على حياتنا ورسم معالم مختلفة للمستقبل.

لقد هاجمنا فيروس كوفيد 19 أثناء ممارستنا حياتنا اليومية الروتينية.لكن، فجأة أجبرنا على اتخاذ قرارات سريعة تفاديا لتداعيات الجائحة التي لم نكن ندرك حجم تأثيرها وقدرتها على تغيير أنماطنا الحياتية. فقد كنت خارج البلاد في رحلة عمل وعملت جاهدا على العودة إلى الوطن والبقاء مع عائلتي. بالفعل استطعت جمع شمل العائلة كمرحلة أولى ووجدت نفسي أنتقل إلى مرحلة أكثر تعقيدا في كافة تفاصيل حياتي. فبالرغم من التئام شمل الأسرة، الا أنني حجرت نفسي عن عائلتي لمدة أسبوعين وفقا للتعليمات الصحية لان الجائحة أوقعتنا في فخ الخوف من العدوى ومن التواصل مع الآخرين وحبستنا في بيوتنا فترة طويلة. لكن، هل نترك الفيروس يدمر حياتنا ويعيدنا إلى الوراء؟ هل نستسلم للخوف ونتنازل عن أعمالنا وطموحاتنا؟

في ظل الحجر والفراغ كان لا بد من استثمار الوقت الذي كان يمر كئيبا ومثقلا بالهواجس والهموم فقررت أن أنجز في المجالات التي لم أكن أجد لها الوقت الكافي وعكفت على قراءة الكتب التي طالما تمنيت الغوص في أعماقها، فقد كانت قراءتي غير منتظمة لضيق الوقت، لكنني في المرحلة التي اعتقدت أنها فترة عصيبة استطعت قراءة أكثر من عشر كتب ولا زلت متمسكا بعادتي الجديدة والقراءة حتى بعد عودتي الجزئية إلى العمل، كما أنني نشرت مجموعة من المقالات المشجعة والتي تحفز على الابتكار والانجاز والصمود في وجه الجائحة.

إن توفر الوقت الكافي للتواجد وسط العائلة بعيدا عن إيقاع الحياة السريع الذي يسرق اللحظات السعيدة، ساعدني على اقتناص الفرصة للتمتع بتفاصيل صغيرة وأعمال منزلية بدءا من الطبخ والخبز وصولا إلى اللعب مع أبنائي والتواصل الهادئ الذي يؤمن سعادة لا توصف ويعزز قدرتنا على الصمود في وجه الأزمات.

أن الظروف المعقدة والصعبة التي واجهتنا تدفعنا لمواجهة أنفسنا وإعادة حساباتنا وتقييم سلوكنا على مختلف الأصعدة، العائلية والاجتماعية والصحية وعلى رأسها علاقتنا بالرب خالقنا وبارئنا الذي يجب أن نطيعه في كل شيء. أنها مرحلة الدروس الصعبة والقرارات الحكيمة، انها مرحلة التغيير نحو الأفضل، إنها مرحلة النضوج الروحي والاقتراب أكثر من الرب وصلاتي أن تزول هذه السحابة السوداء وأن ينعم الجميع بالطمأنينة.

السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي أولوياتنا؟ هل حقا التباعد الاجتماعي هو الذي يفرقنا؟

لو فكرنا قليلا في نمط حياتنا لوجدنا بأننا نهدر الوقت والمال والطاقة في نشاطات تافهة وسطحية لأنها لا تستند على الحكمة والعلاقات المتينة، إنما مجرد سلوك روتيني اعتاد عليه كل الناس وتحول إلى نهج مقبول ومتعارف عليه كالبهرجة والبذخ في المناسبات والتباهي بالإمكانيات المادية، وكل من يحاول التصرف بحكمة والانعتاق من هذه الدائرة سيعتبره المجتمع حالة شاذة وخروج عن المألوف. لكن، ما يجب أن ندركه أن الانجراف وراء التقليد الأعمى هو افتقار للوعي ويعيق مسيرتنا ويكبل خطواتنا وليس إجراءات التباعد الاجتماعي.

دعونا نعمل ما دام نهار كما قال الرب يسوع، دعونا لا نتردد في اتخاذ القرارات الصائبة، دعونا نستثمر الوقت في أعمال مثمرة تعود بالنفع على المجتمع حتى نستحق الحياة.