بقلم غريس الزغبي
تمتلئ صفحات الكتاب المقدّس بقصص النساء اللواتي قدّمن حياتهنّ ذبيحة حية مرضيّة لله، فكنّ شهادة عن أمانة إلهنا العظيم، الذي ليس فيه ظل دوران ولا تغيير، والذي منه تأتي كل عطية صالحة وموهبة تامة. من منّا لم يسمع عن دابورة وراعوث ونعمي وأبيجايل وأستير، فهنّ النساء اللواتي خدمن الله وأوطانهن ومجتمعاتهن وصنعن الفرق في حياة من حولهن. بقوة إلههن، وبرغبة كامنة في قلوبهن أن يصنعن من الكسر نصر، كرّسن كل ما لديهن ليكن لنا مثالاً نحتذي به ونصبو أن نسير على نهجهن بنعمة إلهنا القدير.
قصة اليوم عن امرأة كنعانية شجاعة تمثّل دورها في مساعدة شعب الله أن يدخلوا أرض الميعاد. هذه المرأة الأممية عانقت شعب الله وتخلّت عن أصنام شعبها وماضيها المليء بالخطيئة بل وحياتها السابقة الأثيمة. بإيمانها وثقتها بالإله الحي، أنقذت نفسها وأسرتها من الموت والهلاك، وبدأت حياة جديدة تهدف إلى إكرام الله وتمجيده، فتُوّجت بطلة إيمان بين شعب الله.
تبدأ قصة راحاب الزانية في العهد القديم عندما أرسل يشوع القائد، خليفة موسى، جاسوسين إلى بيتها الذي كان في أسوار أريحا حتى يتجسسا أرض الميعاد، الأرض التي أعطاها الله لشعبه في العهد القديم. لم تفتح راحاب بيتها وحسب لهذين الجاسوسين بل فتحت قلبها أيضاً للرجاء والحياة والسلام الذي يأتي من إلههما، نسمعها تخاطبهما قائلة:
«عَلِمْتُ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَعْطَاكُمُ الأَرْضَ، وَأَنَّ رُعْبَكُمْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا، وَأَنَّ جَمِيعَ سُكَّانِ الأَرْضِ ذَابُوا مِنْ أَجْلِكُمْ، لأَنَّنَا قَدْ سَمِعْنَا كَيْفَ يَبَّسَ الرَّبُّ مِيَاهَ بَحْرِ سُوفَ قُدَّامَكُمْ عِنْدَ خُرُوجِكُمْ مِنْ مِصْرَ… سَمِعْنَا فَذَابَتْ قُلُوبُنَا وَلَمْ تَبْقَ بَعْدُ رُوحٌ فِي إِنْسَانٍ بِسَبَبِكُمْ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ اللهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ.” (يشوع 2: 9-11)
يا لها من شهادة فريدة من امرأة أممية، سمعت وصدّقت وآمنت بل ووثقت بهذا الإله العظيم. لم تشهد صفحات العهد القديم عن راحاب فقط، بل نقرأ أيضاً في العهد الجديد أنّها “تبررت بأعمالها” (يعقوب 2: 24) عندما خبّأت الجاسوسين ، وبالتالي خلّصت نفسها وعائلتها من موت محتّم، ها هي تكلّم الجاسوسين مجدّدا، مذكرة إياهما هذه المرّة بالمعروف الذي صنعته معهما: “فَالآنَ احْلِفَا لِي بِالرَّبِّ وَأَعْطِيَانِي عَلاَمَةَ أَمَانَةٍ. لأَنِّي قَدْ عَمِلْتُ مَعَكُمَا مَعْرُوفًا. بِأَنْ تَعْمَلاَ أَنْتُمَا أَيْضًا مَعَ بَيْتِ أَبِي مَعْرُوفًا. وَتَسْتَحْيِيَا أَبِي وَأُمِّي وَإِخْوَتِي وَأَخَوَاتِي وَكُلَّ مَا لَهُمْ وَتُخَلِّصَا أَنْفُسَنَا مِنَ الْمَوْتِ.” (يشوع 2: 12- 13)
علمت راحاب يقيناً أن كل من يضع اتكاله على الرب لن يخيب، وأدركت أيضاً أنّه ليس سوى الله الذي في السماء سيعطيها وأسرتها النجاة والحياة، وأن إيمانها بالله يجب أن تتبعه الأعمال، وبالتالي ظهرت ثمار الإيمان في حياتها. إنّ هذه الأعمال نتجت عن إيمان قلبي بإله هذا الشعب، فالإيمان بدون أعمال ميّت، وبذلك يكون اكتمل ايمان راحاب بأعمالها.
دفعتني هذه القصة لأفكر بنساء مجتمعنا اليوم، تماماً كراحاب، بعضهن سمعن عن الإله الحي، ولكن لم يتخذن بعد خطوة إيمان عملية، وبعضهن سمعن ونسين، وآخريات وضعن ثقتهن وإيمانهن بغير الله فضاقت بهن الحياة، وبات من الصعب عليهن أن يخرجن من دائرة اليأس. لم تفكّر راحاب بنفسها وحسب بل اهتمّت أيضاً بأسرتها، قد لا تعاني أسرنا المسيحية اليوم من خطر الموت، ولكن كثير منها يتخبّط في ظلام العلاقات المفككة، أو الإدمان المزمن، أو الفقر الروحي، أو الانغماس في الخطيئة والاستمرار بها من غير الالتفات للدعوة الإلهية للتغيير والتحوّل. حري بنا كأسر مسيحية اليوم أن نوّجه أنظارنا ليسوع، يسوع رب المجد الذي يصنع منا جميعاً أبطالاً وبطلات في الإيمان بغض النظر عن ظروفنا أو ماضينا أو خلفياتنا، فهو وحده الذي يبدّد الظلمة في حياتنا بنوره العجيب، ويستبدل الخوف بالطمأنينة ويُخرج من الموت الحياة، ويعطي جمالاً عوضاً عن الرماد.
كانت خطة الله الصالحة لشعبه في وقت راحاب هي دخول أرض الميعاد وامتلاكها، واستخدم هذه المرأة حتى يتمم خطته في حياة شعبه، وخطته لنا اليوم، كشعب الله، هي امتلاك مواعيده لحياتنا، مواعيده الصادقة والأمينة: “أنا معك، أنا إلهك، الممسك بيمينك، مخلّصك، محرّرك، شافيك، راعيك، معزّيك…” الله ينتظر استجابة شعبه لمحبته وعطفة وحنانه ومواعيده، إنه يتوق إلى القلب التائب والحياة المكرّسة والإيمان المتزايد وثقة بشخصه وأمانته تماماً كما فعلت راحاب.
وهكذا تبقى كلمات الكتاب المقدّس عن راحاب مصدر تشجيع لكل من يضع ثقته بالله: “اسْتَحْيَا يَشُوعُ رَاحَابَ الزَّانِيَةَ وَبَيْتَ أَبِيهَا وَكُلَّ مَا لَهَا، وَسَكَنَتْ فِي وَسَطِ إِسْرَائِيلَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، لأَنَّهَا خَبَّأَتِ الْمُرْسَلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَرْسَلَهُمَا يَشُوعُ لِكَيْ يَتَجَسَّسَا أَرِيحَا.” (يشوع 6: 25) بالفعل، استحياها يشوع حتى بحياتها تعطي حياة وإيمان وتعزية وبطولة لمن حولها ولمن يأتي بعدها، إذ يشهد عنها سفر العبرانيين في اصحاح أبطال الإيمان قائلا: “بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة اذ قبلت الجاسوسين بسلام.” (عبرانيين 11: 31)
ليس الوقت متأخّراً أبداً أن نسير في جدّة الحياة مع المسيح، الله الذي قبل راحاب ووهبها بداية جديدة لا يزال ينتظر كلّ منّا، فهو قريب من الذين يدعونه بالحق، ينتظرنا حتى نؤمن بشخصه ونعمل أعمالاً صالحة لامتداد ملكوته، فنأتي بثمر وهكذا نؤثّر إيجابياً على من حولنا، أسرنا وعائلاتنا وبيوتنا، أوطاننا ومجتمعاتنا، حتى بالحياة والقيامة التي وهبنا إياها الرب يسوع نستحيي كل من حولنا فنكون رائحة المسيح الذكية في عالم بأمسّ الحاجة للمسة شفاء وتحرير من يديه الكريمتين.