عقدة الناجي: بين الألم والذنب في ظل الحروب والكوارث

بقلم د. مدلين سهواني سارة

أخصائية تربية ومستشارة نفسية مسيحية

مرّت سنة تغيرت فيها الحياة، لم يعد الروتين روتيناً عادياً، بل أصبحت أحاديثنا ومواضيعنا ومتابعتنا للأخبار والتغيرات اليومية التي تحدث من حولنا هي محور اهتمامنا. فلم يعد أي أمر مضمون، فكل شيء يتغير بين ليلة وضحاها، ونحن نتساءل: ماذا بعد الحرب؟ وهل ستتغير أحوال شعبنا أكثر في الضفة الغربية؟

ما مررنا به خلال هذه السنة، ولا سيما في أول شهورها، هو “وضع النجاة” أو “Survival mood”، وهي وضعية النجاة الاستنكارية التي تتعامل مع كل المآسي والمصائب والانتهاكات ضد حقوق الإنسان بحيث يتكيف دماغنا على الظروف ويصبح مجرد الاستمرار في العيش هو هدفنا، كما لو أننا في مرحلة من الإنكار، وهي آلية نفسية نلجأ إليها في وقت الأزمات الصعبة. وهكذا، في بداية الحرب، كانت الحالة هي صدمة، نحاول البقاء وتلبية احتياجاتنا. في هذه المرحلة، كما رأينا، كان شعبنا المتألم في غزة يركز على قصص الأبطال الناجين بدل الحديث عن الألم أو الخسائر، حتى بين أولئك الذين فقدوا أعزاء. وتُعرف هذه الحالة في علم النفس بـ “وضع البقاء”، حيث تتركز حياة المتألم على تلبية الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والأمان والحماية، ويكتفي الإنسان ببقائه على قيد الحياة، فلا وقت للأسئلة ولا للآمال، وكل شيء يقتصر على لحظة النجاة.

تتميز هذه المرحلة النفسية بالانفصال عن الألم، فالمشاعر تكون مخدرة وصعب التعامل معها، فيقوم الفرد بقمع مشاعره ليستطيع الاستمرار. وللأسف، عاش شعبنا لفترة طويلة حالة إنكار جماعي، ونشهدها اليوم في تأجيل كل شيء إلى ما بعد انتهاء الحرب. ومع مرور الوقت، يبدأ الأمل في الذبول، فنعيش كل يوم فقط على تجنب السقوط والموت، سواء تحت الأنقاض أو بسبب الجوع أو الأمراض.

لكن ماذا يحدث إذا استمرّت هذه الحالة؟ الاستمرار لفترة طويلة على هذا الوضع يمكن أن يؤدي إلى “التآكل الداخلي (internal decay)، نتيجة الصدمات المتراكمة (cumulative trauma)، والتي قد تؤدي في النهاية إلى انهيار نفسي. ففي سياقات الحروب والكوارث، يبدأ التآكل تدريجياً إثر خسارة الممتلكات وفقدان الأحباء، وانعدام الأمان، ومواجهة العنف المتكرر، تُخلق صدمات نفسية لا وقت أو مساحة للتعامل معها. ومع مرور الوقت، تصبح هذه الصدمات عبئاً نفسياً على الفرد، ولعل أقرب تشبيه لها هو تآكل الصخور بسبب المياه الجارية، حيث يبدأ الفرد بالانهيار الداخلي دون أن يظهر ذلك للآخرين.

من أبرز الأمثلة على التآكل الداخلي: القلق المستمر، حيث ينهار يومياً مبنى أو يفقد شخصاً، ولا يعرف الإنسان ما إذا كان يومه هو يوم حتفه أو يوم مأساة لقريب أو عزيز. بالإضافة إلى مشاعر العجز، حيث يشعر الشخص بعجزه عن الإحساس بالأمل، ويعاني من صعوبة في السيطرة على جوانب حياته. فحتى جوانب طبيعية للسيطرة في حياتنا اليومية اصبحت خارج نطاق الإرادة. فتصبح الأيام بلا معنى، وكل يوم يشعر الإنسان وكأنه آلة قد يتمنى لو تم محوها. وحتى مشاعر الاشتياق والحنين تولّد مشاعر من الذنب وجلد الذات، اذ يرى الشخص معاناة الآخرين التي قد تكون أشد من معاناته. هذا إلى جانب العديد من التأثيرات النفسية التي قد تتسبب في وعكات صحية فيعاني من الصداع وآلام المعدة، وضعف المناعة، والإرهاق الجسدي، وغيرها.

وبينما جزء من الشعب يعيش المعاناة، تعيش فئة أخرى من الشعب الناجي حالة نفسية تسمى “عقدة الناجي” (Survival guilt)، وهي حالة يعاني منها الأشخاص الذين ينجون من مواقف خطرة، مثل ما مرّ به شعبنا الموجود على أرض منقسمة بين الضفة الغربية وغزة. فيشعر الناجي بالذنب لأنه نجا بينما فقد آخرون حياتهم أو تأثروا بشدة، سواء بتدمير بيوتهم أو فقدان أجزاء من أجسادهم. ورغم أن هذا الشعور غير منطقي، إلا أنه شعور عميق يؤثر بشدة على من يعاني منه. وفي سياقات الحروب التي نعيشها، تصبح عقدة الناجي أكثر تعقيداً، خاصة للقريبين من الدمار والقصف والموت حولهم. لماذا هم وأنا ما زلت على قيد الحياة؟ كيف أكمل حياتي بينما يعاني غيري؟ كيف لي أن آكل بينما غيري يحتضر جوعاً؟ وما أكثر الأسئلة الوجودية التي تراود الإنسان في هذه الأوقات.

بالإضافة إلى ما ذكر، فإن هذه الحالات قد تؤدي إلى اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)، بسبب الاكتئاب والقلق المزمن، مع أعراض مثل الذكريات المتطفلة، الكوابيس، الاسترجاع الصادم (Flashbacks)، الانسحاب والعزلة، وغيرها. فيا لهول تلك التأثيرات! الحروب والنزاعات تضعنا أمام أصعب التحديات النفسية والروحية. كيف يمكن للإيمان أن يحيا وسط واقع مليء بالدماء والآلام؟ وكيف يجد الأمل والرجاء مكاناً في ظل الخسائر والأصوات التي تبكي على الأموات؟ كيف يمكن للحياة أن تعود إلى معناها بينما يتسلل اليأس والضياع؟

إن الوعي النفسي والروحي له دور كبير في تعزيز المتانة النفسية (resilience) لدى الأفراد، خاصة في مواجهة هذه الأزمات والحروب. فالمتانة النفسية تتعلق بقدرة الإنسان على التكيف مع الضغوط والتغلب على الصعاب بشكل إيجابي، بينما يساعد الوعي النفسي والروحي في بناء أساس قوي لدعم هذه القدرة على التكيف. فالوعي بالمشاعر والأفكار يمكِّن الفرد من التعامل مع المواقف بشكل صحي، والعمل على معالجتها بدلاً من قمعها أو تجاهلها، مما يجعل الشخص أكثر تحكماً في استجاباته. كذا فأن الوعي الروحي والثقة بالله يرتبط بأبعاد حياتنا غير المادية، مثل الإيمان والرجاء ومعنى الحياة. فقط هي الحياة الروحية الواعية التي تمنحنا هدفاً ومعنى أعمق وأسمى، حتى وسط الألم والمعاناة، حيث نرى يومياً فناء الأشياء وعدم ثباتها، وايماننا هو ما يدفعنا للاستمرار والمثابرة، وامتلاك سلام داخلي، خاصة إذا كان هذا السلام متصلاً بملكوت الله، وبرئيس السلام، مما يوفر نعمة ودعماً تفوقا المعضلات الدنيوية.

فالمسيح وضح وأعلن لنا عن أزمنة شبيهة بما تمر به البلاد: «وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا، لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلُّهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ. وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ.» (متى 24: 6-8). فما عسى أن تكون مسؤوليتنا في هذه الأزمنة؟ إنها مسؤولية روحية شاملة لنشر خبر الفداء والخلاص السار، ولتعزية النائحين، ولشفاء مكسوري القلوب، وننادي للأسرى بالإطلاق والحرية: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ وَلِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ.» (لوقا 4: 18)

ولعل أقوى سلاح لمقاومة هذه الحرب هو تكاتفنا وصلاتنا الواعية لحاضرنا واحتياجاتنا، وطلبنا الحكمة والقوة لنعين بعضنا البعض في تلبية نداء المعوّزين وإعالة المتضررين، وطمأنة أخينا الإنسان. إنه الوقت لتقديم الخدمة العملية، بشتى الطرق، سواء من خلال المساندة النفسية أو تلبية الاحتياجات الأساسية كلما أمكن.