فرح وسط ألم الفقدان
بقلم هديل داوود
معالجة نفسية بالفنون – تخصص في علاج الصدمات وضحايا الاعتداء الجنسي
نعم، انتابتني الدهشة عندما اخترت أن أبدأ مقالتي بعنوان “فرح وسط ألم الفقدان”. هل يمكن حقًا للفرح أن يزور قلبنا وسط هذا الألم العميق؟ وسط الحزن الموجع الذي يسيطر على أرواحنا؟ في هذه اللحظات الصعبة، حيث نعيش في ظل ظروف قاسية، كيف يمكن للفرح أن يظهر وسط كل هذا الظلام؟
ها نحن ندخل السنة الثانية من الحرب التي تعصف ببلادنا، والألم لا يفارقنا. مشاعرنا مشتتة بين الخوف والقلق، ونحن نتابع أخبار الحرب والدمار كل يوم. هناك من فقد عزيزًا، ومن فقد عمله، وهناك عائلات فقدت بيوتها، وآخرون فقدوا شعور الأمان، بينما يصرخ البعض مطالبين بالعدل والحرية. كل منا يتعامل مع هذه الظروف بطريقة تختلف عن الآخر. لكن لا شك أن هذه السنة حملت معها فقدانًا عميقًا للأمان، فقد فقدنا معًا الكثير من الأشياء التي كنا نعتبرها جزءًا من حياتنا اليومية.
لكن الفقدان لا يتوقف عند الأحداث الكبرى مثل الحرب، بل يتسلل إلى حياتنا الخاصة في أماكن قد لا نتوقعها. فبالإضافة إلى الحرب، فقدت والدي بشكل مفاجئ. في الوقت نفسه الذي كنت أستيقظ فيه على صوت الصفارات، كان صوت آخر يأتي ليحمل لي خبر فقدان عزيز آخر. كيف يمكن أن يتواجد الفرح وسط كل هذا الألم؟ كيف لنا أن نتحدث عن الأمل عندما يكون الحزن هو السائد؟
في تلك اللحظات، أيقنت أن الفقدان ليس مجرد حدث يحدث مرة واحدة، بل هو سيرورة طويلة. تمر أيام وساعات مليئة بمشاعر متقلبة، من الحزن إلى الغضب، إلى الشعور بالعجز والندم. ولربما تساءلنا: هل نحن مدعوون للعيش في هذا الألم إلى الأبد؟
لكن بين هذا الفقد وهذه الظروف الصعبة، تعلمت شيئًا مهمًا. نعم، من الممكن أن يظهر الفرح وسط الألم. ليس لأن الألم يختفي، ولكن لأن هناك قوة أخرى تتدخل، هناك “سلام داخلي” يمكن أن نختبره، حتى في أصعب اللحظات.
تذكرت نموذج الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر-روس في كتابها “عن الموت والموتى” عام 1969، حيث قدمت خمس مراحل يمر بها الشخص عند تعرضه للفقدان:
- الإنكار (Denial):
- في هذه المرحلة، يرفض الشخص قبول الفقدان أو حقيقة ما حدث. قد يشعر بأن هذا ليس حقيقيًا أو أنه سيحدث شيء يعيده إلى حالته السابقة. يختبر الإنسان شعورًا بالإغماء أو التبلد العاطفي.
- الغضب (Anger):
- بعد مرحلة الإنكار، قد يشعر الشخص بالغضب أو الاستياء بسبب فقدانه. قد يكون هذا الغضب موجهًا نحو الذات، الآخرين، أو حتى الظروف التي تسببت في الفقد، ويواجه الشخص مشاعر العجز والإحباط.
- المساومة (Bargaining):
- في هذه المرحلة، قد يحاول الشخص التفاوض مع الواقع أو مع الذات، متمنيًا لو كان بإمكانه فعل شيء لتغيير الوضع. ربما يتخذ موقفًا من “لو” — مثل: “لو كنت قد فعلت شيئًا مختلفًا، لما فقدت هذا الشخص.”
- الاكتئاب (Depression):
- الاكتئاب هو مرحلة الشدة العاطفية، حيث يواجه الشخص مشاعر الحزن العميق، والشعور بالعجز والفقد. قد يشعر بالوحدة أو أن الحياة لا تستحق العيش بعد الفقد.
- القبول (Acceptance):
- في هذه المرحلة، يبدأ الشخص بقبول الواقع كما هو، ويرضى بما حدث. ورغم أن الألم لا يختفي تمامًا، إلا أن الشخص يجد طريقة للتعامل مع الفقد والتكيف معه، مما يرتبط بالسلام الداخلي والقدرة على المضي قدمًا.
البعض منا يمر بهذه المراحل بطرق مختلفة وترتيب مختلف، والبعض الآخر قد يشعر أنه يمر بمراحل إضافية، وهذا طبيعي جدًا. جميعنا نواجه الفقدان والتحديات بطريقة فريدة، حسب شخصياتنا، تجاربنا السابقة، وظروفنا الحالية، وأيضًا حسب الدعم الذي نتلقاه من البيئة المحيطة بنا. لكن ما ترك بي أثرًا عميقًا في هذه المراحل هو أن العلم نفسه يشير إلى أن مرحلة القبول غالبًا ما ترافقها سلام داخلي يساعدنا على المضي قدمًا رغم الألم. فما بالك إذا كان هذا السلام ليس فقط نتاجًا للفهم الشخصي أو القبول، بل هو سلام الله؟
إذا كان الله هو مصدر سلامك، فكيف سيكون تأثير ذلك على قلبك وسط الفقدان؟ كيف سيكون شعورك إذا أدركت أن هناك سلامًا إلهيًا يمكن أن يطمئن قلبك وسط هذه العواصف؟
في تلك اللحظات التي يشعر فيها الإنسان بالضعف، يظن البعض أن التعبير عن الألم والغضب يعني ضعفًا في الإيمان. لكن الحقيقة أن التعبير عن مشاعرنا، مهما كانت قاسية، ليس ضعفًا بل هو جزء من الشفاء. الله لا يرفض مشاعرنا أو ضعفنا، بل يقبلها ويساعدنا في تجاوزها. عندما نحتج أمامه ونعبر عن ألمنا، فهذه ليست شكوى ضد الله، بل هي دعوة للحديث معه وطلب العزاء. ففي الكتاب المقدس، نجد دعوة صادقة وصريحة من الله نفسه قائلاً: “هلم نتحاجج، يقول الرب..” (إشعياء 1:18). هذه الدعوة ليست دعوة للتذمر بل للتواصل مع الله بكل ما في قلوبنا، بكل صدق وشفافية. الله لا يخاف من مشاعرنا، بل هو يرانا في أعمق حالاتنا، ويعرف كيف يلتقي بنا في آلامنا ليشفي جراحنا.
فعندما تفتحين قلبك لله وتعبّرين عن كل ما تشعرين به من غضب أو حزن أو قلق، لا تعتقدي أنك قد فقدت إيمانك، بل العكس، هذه هي اللحظات التي يقترب فيها الله منك أكثر. ومهما كانت مشاعرنا صعبة أو مريرة، فهو قادر أن يبدلها بسلامه الذي يفوق كل عقل.
إذن، لا تخشي التعبير عن مشاعرك ولا تظني أن الألم وحده هو ما سيحكم على حياتك. حتى في أسوأ اللحظات، يمكن للسلام الإلهي أن يزرع في قلبك فرحًا، ليس لأن الألم قد اختفى، بل لأنك تسمحين لسلام الله أن يملأك ويعطيك القدرة على المضي قدمًا رغم كل شيء.
القبول لا يعني نسيان الفقد، بل هو فهم عميق للموقف والتصالح مع الواقع. في هذه المرحلة، يمكننا أن نجد القوة للتعامل مع الألم والمضي قدمًا.
أشجعك اليوم، عزيزتي، ليس فقط من خلال رسالتي كمعالجة وما شهدته عيني خلال جلسات العلاج، بل أيضًا من رسالة إنسانة فقدت ومرت بألم الفقدان. كانت لتعزيات أبي السماوي قوة كبيرة شدّتني، وأعطتني فرحًا في وسط الحزن. في كل مرة كان الرب يسندني بكلمته، كان لساني يردد: “موسم فرح وموسم خضار”. أعلنت حياة وسط الموت، وسمحت لنفسي أن أتحرك بمشاعر الفقدان ومشاعر الامتنان، لأن كل منها مهم في تخطي مواجهة الصعاب.
أيًّا كانت حالتك اليوم، أشجعك أن تسمحي لنفسك أن تمري بالمراحل المختلفة وتعبري عن ألمك بالطريقة التي ترغبين، بمساعدة من الآخرين. تحركي بثقة في وعود الرب لحياتنا؛ فسلامنا الداخلي قادر على تغيير رؤيتنا لظروفنا الخارجية.
إذا كنتِ تشعرين بأنك عالقة في ألمك، فلا تترددي في التوجه إلى مرشدة روحية أو جلسات مشورة وعلاج، حيث تجدين الدعم الذي يمكن أن يسندك لتختبري النور من جديد في حياتك.
تذكري، أنتِ مدعوة لحياة الفرح، حتى وسط أصعب الظروف. ونحن الآن نقترب من موسم الميلاد، الذي يحمل معه سلامًا وأملًا ورسالة رجاء. فكما كان هناك فرح عظيم بولادة يسوع، ليكن يسوع في قلبك، وليكن رب السلام هو الذي يقود دربك في كل خطوة على طريقك.