جمانة كبلنيان 

أخصائية نفسية ومديرة مؤسسة سايكولوجي سبا 

أنا اليوم أريد أن أبعثر أوراقكم المرتبة وصورتكم المثالية عن أنفسكم وأعود بكم إلى الماضي الذي ممكن أن نراه على أنه سبب للألم لذلك يجب أن نخفيه. 

بطبيعتنا البشرية نُحب أن نتحدّث عن نجاحاتنا ونتجنّب الحديث عن الفشل والتعب والألم الذي سبق النجاح.  وذلك لأننا نعتقد بأن هذه الصعوبات هي نقاط ضعف. ولكن في الحقيقة هذه الصعوبات والتحديات والظروف المؤلمة التي نخجل أن نتحدث عنها هي في الحقيقة سر نجاحنا. 

عندما كنت في مرحلة المراهقة، كنت أعتقد أن الحياة ليست عادلة وظالمة لأنها ليست وردية على الجميع، وكأن الحياة يجب أن تكون دائما كما نريد، مُريحة وخالية من الصعوبات حتى ننجح. منذ حوالي 8 سنوات وخلال تعمقي أكثر في دراسة علم النفس  ومن التجارب المؤلمة والمرة التي اجتزت بها، استطعت أن أفهم أكثر طبيعتنا البشرية وكيف أن الألم هو عنصر مهم للنمو، وتعلّمت كيف تكون التحديات والمشاكل بالألم الذي تحمله فرصتي الذهبية لأعرف نفسي أكثر، ولأكتسب صلابة ومرونة نفسية ويكون لدي تحدي على الرغم من الظروف. أدركت أن المشاكل والألم وحالة عدم الراحة والتوتر ممكن أن يكون أحياناً شيء إيجابي، واليوم أنا أشجعكِ كي تفكري معي بهذه الطريقة!

هناك نظرية بعلم النفس لأخصائي ومعالج نفسي اسمه إريك أريكسون تتكلم عن النمو في الصراعات، وأن الانسان من لحظة ميلاده لمماته يمر بثماني مراحل، وفي كل مرحلة يوجد ألم أو صراع أو تحدي، وهي أشياء لا بد منها وضرورية لكي ينمو الإنسان  نفسياً واجتماعياً ويعطي معنى لحياته.

سوف أتطرق لثلاث من هذه المراحل:

  1. مرحلة الطفولة المبكرة: الطفل في هذه المرحلة عنده احتياجات أساسية من غذاء لتوفير الحب والرعاية والحنان، إذا تم تلبية هذه الاحتياجات فهو سوف يشعر بالثقة، بينما إن لم تُسدّد هذه الاحتياجات فهو سوف يشعر بعدم الثقة، وهذا يُعتبر صراع، ولكن قدرة الطفل على حل هذا الصراع ينتج عنه الأمل.
  2. مرحلة المراهقة: المراهق في هذه المرحلة يسأل نفسه أسئلة مختلفة مثل من أنا؟ ما هو دوري؟ ما هو هدفي في الحياة؟ إذا توفرت له الفرصة لكي يستكشف العالم، سوف يشعر بوضوح في هويته، بينما إذا لم تتاح له هذه الفرصة سوف يُصبح لديه تشوّش في هويته. صراع صعب في الهوية، ولكن قدرة المراهق أن يحل هذه الأزمة والصراع سوف ينتج عنه شخصية سوية أو (صحة وسلامة الأنا).
  3. مرحلة الرُشد: في هذه المرحلة يُقيّم الإنسان الإنجازات والخسائر، هل أنا راضي عن الأشياء التي أنجزتها؟ هناك صراع بين الإنتاجية مقابل الشعور بالركود. قدرة الإنسان على حل هذا الصراع ينتج عنه حب لرعاية ومساعدة الآخرين.

هذه النظرية تُثبت لنا أن الإنسان من أول يوم يُخلق فيه، دائماً هناك صراع سوف يعشيه، لكن هذا الصراع سوف ينعكس علينا بشكل إيجابي إذا عرفنا كيف نتعامل معه. وهي تُثبت لنا أيضاً أن الأشخاص المميزين الذين نمى لديهم الأمل والشخصية السوية وحب رعاية الآخرين هم أشخاص أخذوا من الصعوبات  فرصة للنمو.

شخصياً أعتبر نفسي من الأشخاص الذين استطاعوا النمو وسط الأزمات. وأريد أن أشارك بعض المفاتيح التي ساعدتني أنا شخصياً  للنمو:

  1. قوّتك الحقيقة تظهر وقت الأزمات: الضغط وقت الأزمات هو الذي يقوم بتشكيلنا لنكون أجمل وأقوى صورة مثل الألماس الذي يتشكل نتيجة الضغط المرتفع. أنا شخصياً لم أكن لأكون في المكان الذي أنا فيه اليوم، لو لم أقبل حياتي بكل تفاصيلها الحلوة والمؤلمة. أؤمن أن التحديات التي عشتها لديها دور كبير في شخصيتي اليوم. 

لم تكن طفولتي سهلة، فأنا فقدت والدي عندما كان عمري أنا وأخي التوأم عاماً واحداً، وفاته كانت مفاجئة وفي ظروف غامضة، ما جعل والدتي تدخل في صدمة كبيرة، فلم تكن معنا نفسياً أو جسدياً لوقت طويل. حصلنا على الدعم والرعاية اللازمة من قبل أهل أمي، ولكن أن تكبر كطفل في هذه الظروف وخاصة في مجتمعنا العربي ليس بالأمر السهل. أول صراع عشته كان عندما سألوني في المدرسة عن أهلي وهويتي.

كنت دائماً الطالبة المتفوقة أكاديمياً، ولكن صراعي كان دائماً هل أنا الفتاة الناجحة أكاديمياً؟ أم الفتاة التي جاءت من ظروف صعبة؟ كان صراع في هويتي صعب جداً، لأن المجتمع دائماً كان يُذكرني بالنقص ويُعزز الصراع بداخلي.

اليوم أنا أدركت أن هذه الصعوبات هي التي جعلت مني إنسانة مختلفة ولدي ما أشارك به العالم.

وأنتِ اليوم، ما هو الموقف الذي عشتيه أو تعيشينه حالياً؟ هل طفولة صعبة؟ تفكك أسري؟ صدمة نتيجة حدث معين؟  مهما كان الموقف، من الضروري أن تعرفي أن قوّتك الحقيقية سوف تظهر وتشع وقت الأزمات. 

  1. أنتِ قائدة حياتك بغض النظر عن الظروف، لذلك لا تقبلي أن تحملي هوية الضحية، أنا لا أنكر أن الحياة تقسو علينا أحياناً، ولكن لا تقلبي أن تكوني أداة تهتز مع الظروف ولكن كوني الشخص الذي يُحرّك الظروف لمصلحته.

قبل ثماني سنوات، عندما أنهيت دراستي للماجستير بتخصص علم نفس في بريطانيا، عدت إلى الوطن وأنا مليئة بالحماس لأنقل خبرتي وتجربتي للمجتمع. حصلت على وظائف في كثير من الأماكن، ولكن في الكثير من الأحيان كنت أشعر أنني لست في المكان المناسب، لذلك قررت أن أترك الوظيفة، وهذا أيضاً صراع في الهوية، هل هذه هويتي المهنية التي أطمح إليها؟ هل هذه الوظيفة التي أريدها؟ هل أختار الأمان الوظيفي؟ أم أتبع شغفي؟ 

بسبب أنني درست علم النفس عن شغف ورغبة في مساعدة نفسي أولاً والناس للتمتع بنوعية حياة أفضل، قررت أن أقوم بتأسيس الوظيفة التي أحلم بها وبنفس الوقت أن تلبي احتياجات الناس.  ومن هنا أسست في عام 2016 سايكولوجي سبا أول مركز مختص للتوعية والتثقيف النفسي في فلسطين. التي تهدف إلى رفع الوعي بأهمية الصحة النفسية، ومحاربة الوصمة الاجتماعية المتعلقة بالصحة النفسية وإحداث نوع من التنوع الاجتماعي فيما يتعلق بالصحة النفسية في فلسطين. ما يُميّز سايكولوجي سبا أنه مكان مريح وخالي من الوصمة الاجتماعية، فيه يلتقي مجموعة من الأشخاص بغض النظر عن خلفيتهم الأكاديمية أو الاجتماعية او العلمية، لمناقشة موضوع ينعكس على صحتهم النفسية. 

فنحن ننمو في الصراع عندما يكون لدينا دور فعّال في التعامل معه، بدل من أن نأخذ موقف المتفرج، لهذا من الضروري أن نبدأ بالتفكير كيف نتعامل مع المشاكل الموجودة في حياتنا؟ بدلاً من أن نعلق بالتفكير فيما حصل.

  1. الصبر وقت الألم. هذا الأمر صعب للغاية، ولكن حاله حال أي شيء آخر، فهو بحاجة إلى تدريب. كل شخص بحاجة إلى وقت معين ومختلف عن الآخر  للتعامل مع الصراع الذي يعيش فيه، لهذا لا تجبري نفسك على حل الصراع إذا لم تكوني جاهزة ومستعدة لهذا.

في الماضي كنت أجادل كثيراً وأدخل في نقاشات طويلة مع أشخاص لكي أخبرهم أنهم يأخذون وقتاً طويلاً في حلهم للصراع الذي يمرون فيه. اليوم أنا أدرك أنني كنت على خطأ. هذا الوقت ليس وقت ضائع، هذا الوقت كل شخص بحاجة إليه لكي يتعامل مع المشكلة. لهذا اصبري خلال هذا الوقت الغير مريح والمؤلم، وتعلمي أن تنظري للألم كمؤشر إيجابي للنمو، وأعطي نفسك الوقت الكافي لفهم ما يحدث من حولك ولاكتساب المهارات لتصبحي مستعدة للتعامل مع الصراع.

المشاكل والصراعات هي جزء من الحياة، لذلك أشجعكِ اليوم أن يكون لديكِ دور إيجابي في التعامل معها  بدل من أن نأخذ دور المتفرّج والضحية.  أؤمن أن هناك الكثير من الفرص التي تكون مغلّفة بشكل مشاكل، هذه المشاكل هي التي تشكلنا وتشكّل شخصيتنا وهي نفسها التي تخلق منا قادة وأشخاص مؤثرين ولديهم شيء مميز ومُلهم للآخرين.