بقلم ماري حنانيا

أخصائية نفسية

الأمومة والوالدية، كلمات فيها كم هائل من المشاعر، الحب، الشغف، القلق، الخوف والعلاقة. تولد الامومة عند تكون الجنين داخل الرحم وتبدأ العلاقة من خلال توقعات الاهل وتخيلهم للطفل، تفاصيله وصفاته المرغوب بها، هل سيكون ابنًا ام بنتًا. هذه التخيلات تؤثر على العلاقة بين الام والطفل فيما بعد، في حال ان هنالك ملائمة للتوقعات تتكون العلاقة بشكل ايجابي وسريع، ولكن حين يحبط الوالدان ولا يجدان ما توقعا تمامًا فهذا يجعل تكوين العلاقة مع الطفل معقّد أكثر، ويتعلق ذلك بتضارب المشاعر وليس فقط بالتوقعات. يولد الاطفال لهذا العالم مع مزاج خاص بهم ويتبلور هذا المزاج مع السنين بالترابط ما بين الطفل والبيئة المحيطة به، ما هو مدى استجابة البيئة له، وكيف ينفعل الطفل وماذا تكون ردود فعله، فيكون هنالك تفاعل ما بين مزاج الطفل ومزاج الام ومدى تطابقهما، مما يشكل علاقتهما الاولية. مثلًا عندما يكون الطفل ذو المزاج الهادئ مع ام ذات المزاج الحاد او العكس صحيح تكون هنالك صعوبة معينة في الملائمة ما بينهما (goodness of fit) ويؤثر هذا على طابع العلاقة، ويتطلب جهدًا أكبر من الطرفين لتكوين علاقة متينة وسلسة.

مع “ولادة” الام ومشاعرها المختلطة يولد هذا الاحساس ما بين تقبل الطفل كما هو واحتواءه، وما بين عدم تقبله او عدم تقبل امور معينة فيه. لربما يكون هذا الاحساس في اللاوعي ومن السهل ان ننكره ونقول لذواتنا، اننا نحب ابناءنا ونتقبل كل شيء فيهم، لكن هنالك صراعات داخلية تغيب عن وعينا وتجعلنا نتصرف احيانًا مع ابنائنا بطريقة لا تليق بكل هذا التقبل والمحبة الكبيرة. لا أنكر اننا كأهل وأمهات نحب اطفالنا، ولكنني المح الى تلك الامور التي نحاول ان نخفيها ونتداركها، لكنها ترجع الينا مع الوقت وتعبث في تفكيرنا وأذهاننا، كم نتقبل ونحتوي اطفالنا فعلًا؟ وإن اعترفنا بضعفنا فهذا لا يقول اننا امهات سيئات بل على العكس، فان الاعتراف بوجود هذه الفجوات بيننا وبين اطفالنا هو جزء كبير من الوعي لهذا الاحساس، لإيجاد طرق تساعدنا على تقبل وتسديد احتياجات أطفالنا.

لنستطيع الوصول الى هذا الاحساس، علينا ان نسأل أنفسنا عن تلك الفجوات التي بها لا يلائم اطفالنا توقعاتنا ورغباتنا، هل نعطي أنفسنا الشرعية لتلك المشاعر السلبية احيانا اتجاه اطفالنا، ام نتصرف بناءاً على تلك المشاعر بطريقة لا إرادية برفضهم او عقابهم على امور لا تستحق العقاب، دون ان ندرك ما يحدث داخلنا؟

لتوضيح ذلك أتذكر قصة تراودني بين الفينة والاخرى عن احدى الحالات، في احدى المدارس التي اعمل بها كأخصائية نفسية، عن فتاة في المرحلة الاعدادية. وصفتها امها بانها عنيدة، بليدة لا تسمع كلامها ولا تطيعها وتفعل عكس كل ما تقوله لها، هل هذا الوصف مألوف لدى البعض منكم؟ هذا وصف مألوف في سن المراهقة عادةً، ولكن الصعوبة في هذه الحالة بالذات، هي تمركز الاهل في احتياجاتهم ونظرتهم لذواتهم كأن ابنتهم هي تكملة لهم واحتياجاتها تشبه احتياجاتهم. كان هدفي في اللقاءات معهم مساعدتهم في فهم احتياج ابنتهم، وأنها مختلفة عنهم. منذ كانت طفلة، كان هنالك صعوبة في العلاقة مع الاهل والأم بالذات، لقد ولدت مع مزاج مختلف عن مزاج امها، وذلك جعل نوعية العلاقة بعيدة ومتنافرة.

كثيرًا ما نقع في ذلك الفخ، ونؤمن ان اولادنا تكملة لنا وأحلامهم تشبه احلامنا، ولديهم نفس الاحتياجات، وهذا من الممكن ان يخلق جوا مشحونًا من عدم التفاهم والبعد، والحد من فرص أطفالنا على اتخاذ مسؤولية حياتهم وقراراتهم، بالرغم من ان قراراتهم واختياراتهم هم المسؤولون عنها. علينا كأهل الفصل بين احتياجات أطفالنا واحتياجاتنا، من موقف واعٍ وليس من باب اخلاء المسؤولية تمامًا. بنظري نحن المسؤول الاساسي عن العلاقة مع الطفل، صقلها وتذويتها لأبعد الحدود. القيم التي نغرسها في اطفالنا هي الاساس المتين، والوقت الذي نقضيه لنفهم أصغر تفاصيلهم ونصغي لهم. فكل هذه الامور التي نزرعها سنجني ثمارها لاحقًا.

 

عودة إلى الحالة التي ذكرتها سابقاً، بعد عدة لقاءات مع الاهل وتفهم صعوبتهم، ومع تقديم بعض النصائح والتوجيه تغيرت نظرتهم لها، استطاعوا ان يفهموها أكثر من ذي قبل وبالمقابل تحسنت علاقتهم معها تلقائيًا، بحيث شعرت الفتاة انهم يفهمونها أكثر. صارت علاقتهم أقرب ولم تعد هي بحاجة للتمرد مثل ذي قبل، والتعبير عن مشاعرها عن طريق السلوك الرافض طوال الوقت. لم يختفي الرفض لكنه قل بوتيرته وشعر الاهل بارتياح معين معها.

في هذه الحالة كان جزءًا كبيرا من التحسن هو اعتراف الاهل بوجود فجوة في التوقعات، وتحمّل مسؤولية الصعوبة التي واجهوها، والتي أدت إلى نظرة سلبية اتجاه ابنتهم.

 

وهنا أقتبس من الكاتب جبران خليل جبران، حيث قال عن الأبناء في كتابه النبي:

“أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.

ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم.

أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكارًا خاصةً بهم.

وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم.

ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم.

فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا في أحلامكم.

وإن لكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم.

ولكنكم عبثاً تحاولون أن تجعلوهم مثلكم.

لأن الحياة لا ترجع إلى الوراء، ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس.

أنتم الأقواس وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة عن أقواسكم.

فإن رامي السهام ينظر العلامة المنصوبة على طريق اللانهاية، فيلويكم بقدرته لكي تكون سهامه سريعة بعيدة المدى.

لذلك، فليكن التواؤكم بين يدي رامي السهام الحكيم لأجل المسرة والغبطة.

لأنه، كما يحب السهم الذي يطير من قوسه، هكذا يحب القوس التي تثبت بين يديه.”