أ.سهام خوري منسقة أكاديمية ومُحاضرة في كلية بيت لحم للكتاب المقدس
تعزز المجتمعات النامية الصورة النمطية السلبية عن الشباب بحيث تؤسس إلى بيئة طاردة وهدامة تجردهم من طاقاتهم وتحرفهم عن مسارهم فتتقاطع المصالح بين الواجبات والحقوق ويقعون فريسة للتناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتحكم في قراراتهم وتتركهم يتطورون خارج وعيهم وصولا إلى نضوج زائف في مرحلة عمرية حرجة يتخذون فيها قرارات مصيرية بدءا من اختيار التخصص الدراسي وصولا إلى التفكير في الهجرة بحثا عن الذات.
إن الشكل التقليدي للنمو والتطور عاجز عن توجيه السلوك وبناء أمن فكري مستقل ومبدع ومنتمي لوطنه ومجتمعه قادر على تحقيق التأثير الايجابي، فالشباب يؤثر ويتأثر ويشكل أهم عناصر التنمية البشرية التي لا تتحقق بعدد الخريجين والدرجات العلمية في ظل فجوة واسعة بين المكونات الشخصية للخريج واحتياجات المجتمع والانتماء الذي يقاس فقط بالقيم والمفاهيم وتلمس هموم الوطن.
تتجلى أوضح التناقضات في أكثر من 30 ألف جواز سفر تمنحها مؤسسات التعليم العالي سنويا، جوازات من نوع آخر فهذا الجواز غير عابر للحدود بين الدول إنما هو وثيقة رسمية شرعية وقانونية لتحقيق الأحلام والطموحات التي راودت الطلبة وهم على مقاعد الدراسة، فقد كبرت الأحلام في الحرم الجامعي وكانت الحافز للعمل والاجتهاد والسهر والمواظبة على تلبية المتطلبات الأكاديمية التي توجت بحفل التخرج والتقاط الصور التذكارية وما يتبع ذلك من احتفالات حيث تعم البهجة على كافة أفراد العائلة.
تتبخر الأحلام وتأتي الصحوة متأخرة ويصبح المستقبل أكثر ضبابية عندما تتحطم طموحاتهم خلف الأبواب الموصدة ويصبح المشهد أكثر درامية مع كل محاولة فاشلة للتقدم خطوة إلى الإمام، خاصة إذا ما علمنا أن معدل البطالة بين الخريجين وصل إلى 55.5% وحوالي 4 شباب من كل 10 شباب يعانون من البطالة خلال الربع الثاني من العام 2014 وفق مركز الإحصاء الفلسطيني. وهنا لا بد من رصد دقيق للبحث عن الجاني وعن المتسبب في تفريخ عقول مؤهلة علميا لكنها فاقدة للقدرة على العطاء وخدمة المجتمع مع ما يعنيه ذلك من إقصاء أكثر من نصف الكوادر الشبابية عن التنمية.
العلم قوة ونفوذ إلا أن مفهوم التنشئة بمعزل عن احتياجات المجتمع وعدم ترشيد التعليم وعدم قدرة الشباب على اكتشاف إمكانياتهم وميولهم وفقدانهم للانتماء يدفعهم إلى رسم معالم المستقبل بشكل فردي لتحقيق مصالح شخصية وتوفير حياة كريمة دون الأخذ بعين الاعتبار أن مجموع المصالح الشخصية لا يساوي مجموع الصالح العام وأن تدني الصالح العام يرتد سلبا على الأفراد أنفسهم.
الاختيار الواعي والموجه ليس حالة مثالية إنما ضرورة ملحة تتطلبها احتياجات المرحلة وخصوصية الواقع الفلسطيني، فالعمل يحمل قيم مادية واجتماعية ووطنية وأخلاقية والحفاظ على التوازن ومنح العمل مضمونه الحقيقي المتمثل بالعطاء والتنمية والإخلاص والإحساس الواعي بدور كل فرد في التنمية يشكل رافعة للبناء ويؤدي إلى دمج شرائح أوسع في دائرة المنتفعين من نتاج جهودنا.
الامتحان الأصعب هو تحديد خياراتكِ انسجاماً مع احتياجات المجتمع، والمجتمع يتكون من مجموع الأفراد الذين يتعايشون ويتبادلون الخبرات والخدمات لتحقيق التكامل والعدالة الاجتماعية القائمة على التعاون وتلمس معاناة واحتياجات الآخرين، وهذا يجعلنا أكثر إنسانية وأكثر قدرة على البذل والعطاء بغض النظر عن نوع الخدمة أو طبيعة المهنة، فالعطاء لا يتجزأ ولا يقتصر على مهنة دون أخرى بل يتجاوز إطار المهنة والتخصص ليصبح نهجاً وثيق الارتباط بالمجتمع.
لكن الواقع يشي بغير ذلك، وما نعيشه الآن من انحطاط أخلاقي وآفات اجتماعية واعتداء على حقوق الغير بالإضافة للنزاعات القائمة على الصعيدين المحلي والإقليمي يؤشر إلى خلل في مفهوم التنشئة والانتماء وهنا لا بد من وقفة جادة لوضع كافة الجهات الرسمية والتربوية أمام مسؤولياتها لتطوير أساليب التنشئة وابتكار آليات قادرة على استقطاب الشباب وتوجيههم لحمايتهم وتفعيل طاقاتهم لما فيه خير المجتمع.