بقلم جمانة كبلنيان
أخصائية نفسية ومديرة مؤسسة سيكولوجي سبا
الحياة تمضي بسرعة والوقت لا يتوقف ونحن ما زلنا نبحث عن حياة في الماضي متجاهلين حياتنا اليوم! الحياة هي ما يحدث الان، هنا، بينما أنتِ تبحثين عنها بالأمس، هناك بين طيَات الذكريات!
الناس عادة يصفون حياتهم كونها جميلة أو قبيحة، جيدة أو سيئة، عادلة أو غير منصفة، وهكذا تستمر التصنيفات تتأرجح ما بين الأبيض والأسود الى أن يأتي يوم نعجز فيه عن رؤية الجانب المضيء في الظلمة. وذلك لأننا لم نحاول أن نرى بقية ألوان الطيف بل تطرفنا بالنظر الى الحياة غير تاركين مجال للون ثالث.
“الحياة حلوة بس نفهمها”! هذه كلمات أغنية لطالما رددناها بسخرية مشككين في جمال الحياة لاعتقادنا أننا فهمنا الحياة وأدركنا أنها متعبة وغير جميلة! فعلا الحياة ليست جميلة من هناك لأننا ننظر من الزاوية الخطأ عالقين في جانب واحد منها غافلين الاطار العام الأوسع للصورة!
تتراكم الذكريات من الطفولة الى الشباب فالبلوغ والشيخوخة، وفي كل مرحلة نعلق بالمرحلة السابقة لها ونعيش على أطلالها سواء كانت جميلة أم مؤلمة. الماضي قد يكون أفضل لنا لأنه مضى وانقضى فنحن نتوق لفرحتنا السابقة ونبكي على ما عصف بنا من تجارب. وفي هذه الأثناء تنسرق منّا أجمل لحظات العمر وتضيع الكثير من الفرص! الماضي هو موسوعة من التجارب والدروس الحياتية التي اذا ما تعلمنا منه أصبح الدليل والمرشد الأول لحياة أفضل بينما اذا ما علقنا به صرنا اليوم ضحية له، غطى عيوننا اللون الأسود وبات الأبيض حلم. هذا فقط لأننا لم نفتح عيوننا لاستقبال خليط باقي الألوان ولم نأخذ دورنا في صنع التغيير الذي حصل وما زال يحصل بحياتنا بل استسلمنا للماضي وصرنا أسرى له. الخبر السار أنَ اليوم وكل يوم جديد هو فرصة لندرس صفحة الماضي، نتعلم منها ومن ثمَ نطويها لنبدأ من جديد!
الكثير يسعى جاهداً لمحاربة الماضي ونسيانه بكل الطرق التكيفية سواء النافعة أو الضارة. نتعامل مع الماضي وكأنه عدو لنا نريد التخلص منه، لكن الحكمة اليوم في مصادقة الماضي والتعلم منه ليكون سلاحنا وقوتنا في الحاضر. وقد أكَد ميلمان (1980) على أهمية أن “نركز طاقتنا على بناء الجديد عوضاً عن هدرها في محاربة القديم”. نحن نهدر ونستنزف طاقتنا اليومية بالتفكير بالماضي أو القلق على المستقبل، بينما أجدر بنا أن نستثمر طاقتنا في صنع يوم وحاضر أفضل. ولكن، ما هي الطريقة التي بها نتحرر من الأفكار السلبية المرتبطة بالماضي؟ وكيف نبدأ اليوم؟
سر النجاح الأول في طي صفحة الماضي والبدء من جديد هو عن طريق التصالح مع ما حصل بالماضي والتركيز على حياتنا في اللحظة الراهنة. حيث أنَ الطريقة الأمثل للتخلص من أي شيء يزعجنا تكون عن طريق تحويل نظرنا على أمور نرغب بها. وهذا ما أشار اليه ديسكيت (2008)، اذ أنَ التركيز على الحاضر بنظره يعني أنتكون حاضرا هنا والآن ملتفتاً لكل ما يدور حولك من أصوات، أشياء وأشخاص، وهذا بدوره يقلل من انشغالك بما يدور في رأسك من أفكار سلبية حول الماضي. في كثير من الأحيان، استياءنا من الذي حدث معنا بالماضي وتركيزنا عليه قد يؤدي الى تأجيج المشاعر السلبية وذلك أثناء محاولتنا التخلص منها.
تقبّل الماضي بأحداثه وما يرتبط بها من مشاعر وأفكار سلبية هو السبيل الأمثل للمضي قدماً. اعطاء شرعية لمشاعركِ ومعاناتكِ يجنبكِ خوض معركة خاسرة في محاولة منكِ لتغيير ما حدث. والذي بدوره يمنع مضاعفة الألم واستمراره ومن ثمَ يسمح لنا بتوجيه نظرنا على أمور أخرى ايجابية تحدث معنا الان. وفي كل مرَة نضيف أمور ايجابية لحياتنا تزداد ثقتنا بأنفسنا وبقدرتنا على التعامل مع الأحداث الحياتية. التركيز على بناء أمور جديدة تحدث الان من شأنه أن يعزز شعورنا بالسيطرة على الموقف وبالتالي تعزيز الثقة بالنفس (ديكسيت ،2008). وهنا يأتي السؤال: كيف نتقبل الماضي بالرغم من صعوبته؟ المفتاح لذلك هو المسامحة، مسامحة أنفسنا والاخرين على ما تمَ اقترافه من أخطاء للتحرر من الغضب والحقد والكراهية التي لن تقتل أحد غيرك. هذه المشاعر السلبية التي تقف عائق بينكِ وبين الراحة، والفرح ، والحب والأمل. إن لم تسامحي نفسكِ أولاً لن تستطيعي مسامحة الاخرين وستعيشين اليوم مشاعر الأمس وألمه. المسامحة لا تعني قبول ما حدث أو نسيانه، ولكن تعني أنَكِ تعلمتِ من الذي حدث وستمضي بحياتكِ بشكل أفضل. المسامحة هي أفضل طريقة لمساعدتنا على مواجهة ما حدث معنا بالماضي، والاعتراف بأخطائنا، والتعلم منها والاستمرار بالحياة (ديكسيت ،2008).
اليوم وفي هذه اللحظة، اذا ما كنتِ تشعرين بالألم والحسرة حول حياتكِ الماضية، وما زلتِ حبيسة لهذه الذكريات عالقة في دوامة الأفكار السلبية، توقفي! فقط يكفي أن تتنفسي بعمق لتشعري بوجودكِ هنا الان!تنفسي وخذي استراحة فعلية من هذا الحمل الثقيل. اطرحي هذا الحمل جانباً ولا تتركي أي مجال للغضب، والحزن، والكراهية أو أي مشاعر سلبية تجاه مواقف أو أشخاص خذلوكِ بالماضي. اغفري ثم اغفري وحرري نفسكِ من قيود الماضي وانطلقي نحو حياة حقيقية. اطوي صفحة الماضي وابدأي من جديد!