بقلم د. مدلين سارة

أخصائية تربية ومستشارة نفسية مسيحية

يعج عالمنا بالكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة التي تترك آثارها السلبية على الصحة النفسية التي بدورها تؤثر على مستقبل الأفراد الذين يقعون فريسة للخوف والقلق، وهذا يستدعي الاهتمام بالصحة النفسية من أجل مساعدتهم على التأقلم ومواجهة هذه التحديات بصلابة حتى نخرج بأقل الخسائر ونحمي أنفسنا والآخرين من التداعيات الصحية والنفسية، خاصة في ظل جائحة كورونا التي جعلتنا نتخبط في أسلوب حياتنا ونتأرجح بين الخطأ والصواب وبين المعلومات الحقيقية والمضللة بالإضافة إلى عدوى الإشاعات التي نشرت الرعب والخوف المرضي وأدت إلى بلبلة وفوضى في التعامل مع الجائحة.

نحن كفلسطينيين نعاني من أزمات مربكة في ظل صراع قومي وطبقي وصحي، انه صراع وجودي حيث تجدين كل ما حولك يشدك إلى الخلف ويعرقل مشاريعك ويحد من طموحاتك ويحولك إلى إنسانة سلبية وعاجزة غير قادرة على اتخاذ القرارات ورسم معالم المستقبل في ظل انعدام الفرص والمقومات التي يمكنك الاستناد عليها. لكن، بالرغم من هذا الواقع المرير، لا بد من التأكد من حقيقة واحدة وهي أن المصيبة كونية والجائحة لم تميز بين القوميات وظروفهم الاقتصادية والاجتماعية. فقد هاجمت الرؤساء وشعوبهم، اجتاحت العالم وقزمت العمالقة وهزت الدول الكبرى وأفلست الشركات وحجرت الناس وكأنها نهاية العالم.

إن التداعيات النفسية للجائحة أخطر بكثير من الجائحة نفسها فالرعب والاستسلام وعجز العقل البشري عن استيعاب ما يحدث أفرز أزمات فرعية عبرت عن نفسها ببشاعة ووحشية من خلال استفحال العنف المنزلي أثناء فترة الحجر مع ما يعنيه ذلك من انتهاك لحقوق الفئات المستضعفة داخل الأسرة بالإضافة إلى المشاعر المتضاربة بين الإحساس بالخوف والقلق والظلم…الخ.

إن الأزمات المتشابكة وتداعياتها، تستوجب إيجاد آليات للدعم النفسي خاصة للفئات التي تضررت بشكل مباشر من خلال الإصابة بالمرض أو فقدان عزيز أو فقدان وظيفة أو التعامل المباشر مع المصابين كالأطباء والممرضين. وهنا لا بد من لفت النظر إلى الاضطرابات النفسية والسلوكيات الخطيرة الناتجة، كالإدمان على الكحول والانغماس في آفة لعب القمار والسهر بالإضافة إلى الخلافات الزوجية. كل هذه التداعيات فرضت نفسها بقوة بعد أن ذابت الطبقة الجليدية الرقيقة التي كانت تكسو سطح الماء والتي كانت تكتنز في أعماقها أفكارنا ومشاعرنا ومواقفنا والقيم والمُعتقدات وما نحمله من أهداف واحتياجات، والتي نحيا دوماً بطريقة أوتوماتيكية دون فصحها. لكنها جميعها بدأت تطفو على السطح بعد أن توفر الوقت الكافي للتفكير والتأمل في أسلوب حياتنا الروتيني والآلي والذي جعلنا نلهث وراء الإنجازات المادية لتأمين احتياجاتنا اليومية والقيام بمهامنا في العمل والمنزل دون أن نسأل أنفسنا، هل نحن على الطريق الصحيح؟ هل عائلاتنا تتمتع بعلاقات صحيّة؟ هل ما جنيناه من ممتلكات وأرصدة في البنوك يضمن لنا المستقبل؟ هل الجمال الخارجي هو حقا مكسب ويحقق انطباعات جيدة لدى الآخرين؟

إن ذوبان الجليد ببياضه الناصع والذي كان يكسو وجه الماء ويخفي العورات قد سقط وكشف عن رعونة قراراتنا وخياراتنا، لان كل الإنجازات التي حققناها والتي اعتقدنا أنها سلاحنا في هذا العالم لم تستطع الوقوف في وجه فيروس لا يرى بالعين المجردة. لأننا بوعينا أو خارج وعينا اخترنا معتقدات تقدم الوعد بالشبع بدون الله.

قلة قليلة في هذا العالم أدركت طبيعة المرحلة، إنها الفئة الناضجة روحيا وفكريا، إنها الفئة التي وقفت في وجه العاصفة بثبات وثقة، إنها الفئة التي انتصرت بالفكر لأنها حددت أولوياتها في المجتمع وداخل العائلة. نحن بدورنا كيف نستطيع الصمود؟ وما هو الأسلوب الأمثل للنمو والتطور وفهم الحياة بجوهرها الحقيقي لا بزيفها وخداعها؟

نحن كبشر نحتاج إلى الدعم النفسي المتخصص في ظل الأزمات، لكننا كأمهات وأخوات وصديقات نستطيع وفق إمكانياتنا مساندة عائلاتنا وكل من حولنا من خلال إتباع الإرشادات التالية:

  1. مواجهة النفس: جلسات من الهدوء والتأمل ودراسة كلمة الله وكتب أخرى لفحص مكنونات النفس وصحتها. نحن بحاجة ماسة للتلامس مع النفس وفهمها. بحاجة للعزلة والصمت وتعلم التمتع بأوقات راحة وهدوء. خلقنا على صورة الله ولكن العالم شوًهنا وتشوهت صورة الدنيا بعيوننا، أصبحنا نراكض وكأننا نلاكم الهواء. أما إذا جالسنا نفوسنا وجالست النفس خالقها استردت صورتها وقيمتها.
  2. بناء علاقات داعمة ومساندة: علاقات تبنى على الثقة وتقديم الرعاية والحب. علاقات تساعدني في فحص ذاتي وتمكينها. فلذا وجود صديقات ايجابيات تحترمن الفروقات الفردية وطبائعنا المختلفة في التعامل وردود الأفعال وتساندن للحفاظ على روح معنوية عالية. هذا يُساهم في تقديم الدفعة للأمام واللجوء إلى الصداقات للتخفيف من حدة التحديات. وذلك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها، أو اللقاءات بحسب ما هو مسموح قانونياً. فدائرة الأمان مكان أشارك وأفضفض وأفصح عما يجول ببالي وأتوقع الاحتواء والقبول والدعم.
  3. تبني عادات صحية جديدة والانضباط بممارستها: الحصول على قسط كافِ من النوم والراحة والاسترخاء وتخصيص أوقات للعمل والإنجاز، تناول الطعام الصحي المتزن، ممارسة الرياضة بشكل منتظم، القراءة، تحديد أوقات محدودة للشاشات لأن الإفراط في الجلوس أمام الشاشات يؤدي إلى نتيجة عكسية ممكن أن تزيد الاكتئاب.
  4. انتهاز الفرصة والتركيز على العائلة وغربلة العلاقات: فاليوم هناك فرصة لتواجد الأب وحضوره الأقوى بالعائلة، كما أن الأم أصبحت متاحة بشكل اكبر بسبب قلة ساعات العمل والاختلاط الاجتماعي. فهي فرصة استثمار تواجد جميع أفراد العائلة في المنزل من أجل توطيد العلاقات والإصغاء إلى أولادنا وابتكار أساليب جديدة في التواصل معهم وردم الفجوة بين الأهل والأبناء. فطبيعة الحياة سابقاً كانت تعج بالالتزامات والأعمال الخارجية التي أدت إلى ضعف في جانب التسديد العاطفي تاركة الأهل ظانين أن الماديات أكثر ما يحتاج إليه أولادهم. إن الجلوس لفترات أطول جعلتنا نعيد النظر بعلاقاتنا وغربلتها باستبعاد السلبيين عن حياتنا. إن للانتماء العائلي والعلاقات الأسرية أثر كبير في السعادة والراحة النفسية وهي من أولوياتنا الروحية.