بقلم د. مدلين سارة مستشارة نفسية وأخصائية تربية

منذ ولادة الفتاة يتم تصنيفها اجتماعيا ويتم رسم خطوط عريضة لمسيرتها الحياتية ويتم إخضاعها إلى لائحة طويلة  من المسموحات والممنوعات فتنشأ الفتاة وسط منظومة أخلاقية وفكرية تتنافى مع كونها إنسان كامل الحقوق ويتم تهميش قدراتها وتجميد عقلها كأنها إناء فارغ يتم تعبئته بالمفاهيم الاجتماعية السائدة فتكتسب الفتاة هذه القيم ويتطور تفكيرها في إطار محدود لا يتخطى الإناء الذي تم قولبتها بداخله وتقع فريسة للخطوط الحمراء بداخلها والتي توجه سلوكها وتفكيرها وهذا هو الدور الجندري ( ذكور وإناث) الذي يولد مع الفتاة وتعززه الإجابة المألوفة عن كافة تساؤلاتها “هو ولد وأنت بنت ” وكأن البنت تهمة تلتصق بها منذ الولادة حتى الممات وتكون هي الشماعة التي تجردها من حقوقها وتكبح جماح تطورها ونمائها الفكري.

بسبب طبيعة عملي واحتكاكي بالمجتمعات الغربية من ديانات ومستويات اجتماعية مختلفة، بالإضافة إلى خصوصية كل بلد أو كل فئة اجتماعية كالوضع السياسي والحالة الاقتصادية وطبيعة المدارس التي التحقوا بها ودور العبادة ووسائل الإعلام التي تكرس الأدوار الجندرية، وجدت فروق كبيرة بين المرأة في المجتمعات الغربية والمرأة في المجتمعات العربية، فالصورة النمطية للمرأة العربية حتى في الإعلام هي ربة البيت والطاهية والمطيعة وأم الأولاد التي تنكر ذاتها في سبيل العائلة في حين أن الرجل الحكيم العاقل ذو الرأي السديد القوي ومكانه الحقيقي في موقع العمل وباستطاعته تولي مناصب قيادية وبالتالي فهو سيد بالمنزل وطاعته واجبة ومقدسة وفق الثقافة التقليدية.

عندما أتعامل مع النساء في الغرب، ألاحظ الاحترام المتبادل بين الرجال والنساء وأشعر بالمساواة الحقيقية بين الجنسين وألمس ثقة النساء بأنفسهن وقدرتهن على خدمة مجتمعاتهن بالإضافة إلى حقوقهن الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تكفلها القوانين وهذا ما يعزز قدرتهن على العطاء بل وعلى التطور بلا قيود.

يؤسفني القول باننا شوهنا العلاقة بين الجنسين بسبب العقلية الجندرية، فنحن لا ننكر الطبيعة البيولوجية ولا نلغي الجينات الوراثية ولا نتمرد على كوننا نساء، إنما التشويه الفكري هو الذي نرفضه والذي حاصرنا ضمن هيكلية ذهنية (schema) توجه أفكارنا وسلوكنا وتحكم بالصواب والخطأ ضمن إطار الهيكلية الذهنية لتصورات مسبقة بعيدا عن التحليل العلمي والإنساني.

لا ننكر التغيير الذي طرأ على واقع المرأة في السنوات الأخيرة حيث استطاعت بعض النساء الوصول إلى مراكز قيادية وأثبتن جدارتهن في مجالات كثيرة، إلا أن جذور التربية التقليدية لا زالت تشدنا إلى الوراء ولا زالت تؤرق أعماقنا وتعيدنا إلى الصورة النمطية للفتاة الهادئة الوادعة المؤدبة والرقيقة التي لا تناقش ولا تجادل في حين نقبل كنساء الصورة النمطية للرجل بجبروته وتسلطه وكأنها حالة طبيعية بالرغم من وعينا ورفضنا للتقسيم الجندري.

صراع متعدد ومتشابك تدور رحاه في أعماق كل امرأة حول صورتها عن ذاتها، فهي لا زالت تتساءل عن الصواب والخطأ ولا زالت تتحمل الأعباء المنزلية الثقيلة بالإضافة إلى مسؤوليتها المهنية ونشاطاتها المجتمعية. إذن، فهي وبالرغم من تفوقها وانطلاقتها الخارجية أصبحت مقيدة بأغلال نفسية متأصلة في أعماقها وبأغلال الأعباء المتراكمة عدا عن نظرتها لذاتها.

من خلال دراستي وتعمقي في الموضوع وذلك من الناحيتين النفسية والكتابية وجدت الآتي:

  1. الصراع النفسي: هو واقعي لدى معظم الفتيات والنساء. وهو صراع ما بين تصوراتي الذهنية وما وصلت إليه من نضوج فكري وبين ما نشأت عليه منذ الطفولة من معايير وقيم وهيكلية ذهنية schema)) بائدة. ويحتد الصراع عندما تزداد أعباء الحياة وتصبح أكثر تعقيداً في إيجاد التوازن بين الحياة المهنية وبين دورها كزوجة وكأم أو حتى كابنة وأخت لعائلة عربية تقليدية تهمها أقوال الناس (عن الزوجة الصالحة والمنزل المنظم وست البيت المعدلة والطاهية الماهرة وكل ما يخص الزواج والارتباط إن كانت عزباء).
  2. الصراع الكتابي: كوني مسيحية ملتزمة بإيماني وفي التعليم الكتابي، فهل أنا أكسر تعاليم الله أو أشوّه في صورة المرأة؟ هل الكتاب المقدس يُعلّم الأدوار الجندرية أم هذا تأثير الثقافة الاجتماعية الذي كتب فيه كل سفر من أسفاره؟ ولكن ماذا تعني الآية: “أن الله خلق البشر على صورته ومثاله… ذكراً وأنثى خلقهم” تكوين1: 27 كما أن في كل تعاليم المسيح وحياته كان يدعو لأن يقف بقوة متضامناً مع المهمشين والمضطهدين والمظلومين ومن بينهم المرأة.

نعم لقد كان المجتمع اليهودي الذي عاش فيه الرب يسوع مجتمع قاسي على المرأة. فالمسيح سمح للنساء أن تتبعه بل والأكثر سمح لهنّ أن يموّلن رحلاته كما ذكر في لوقا8: 1-3 “ومعه الاثنا عشر. وبعض النساء كن قد شّفين من أرواح شريرة وأمراض: مريم التي تُدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين، ويوّنا امرأة خوزري وكيل هيرودس وسوسنّة وأخر مثيرات كن يخدمنه من أموالهن.”

كما أنه سمح للمرأة التعلّم، على نقيض المعلمين اليهود (الربانيم)، الرب يسوع السيد المعلم شجّع جلوس مريم أخت مرثا، برغم توبيخ مرثا لأختها ومحاولة إقناع المسيح بأن جلوسها عند أقدام المعلم ليس من حقها كامرأة، بل مكانها في المطبخ لتجهيز الطعام، فأجابها المسيح برفضه لهذا الفكر وتشجيع مريم على التعلم كسائر الرجال والتلاميذ. وقد تحاور وتناقش وشجع امرأة سامرية على السؤال والنقاش والاستفسار في مواضيع غير عادية (لم يكن عن تربية الأولاد ولا عن الطبيخ) بل عن مواضيع لاهوتية عميقة. ولنتذكر أيضا أن بولس كانت تعينه في الخدمة العديد من الخادمات مثل فيبي التي دعاها خادمة الكنيسة في كنخريا، كما ذكر بريسكيلا ومريم وتريفينا وتريفوسا. (رومية 16)

 

لم يميز المسيح بين أباء شعبه، ولم يتبع التصنيف البشري للرجل والمرأة، بل على العكس وحد بقوة الروح القدس بين الاثنين، وأبطل الفروق بينهما.

إذن، آن الأوان لنجدّد أذهاننا وأذهان الجيل الجديد، نحن كأمهات أو مربيات للجيل القادم يتوجب علينا التأثير على إخوتنا وزملاءنا وقادتنا. لكن قبل كل ذلك علينا البدء بأنفسنا وذلك بالتمكين النفسي والعلمي والاقتصادي لان ما نقوم به ينعكس ايجابيا على وعي وسلوك ونفسية أولادنا وأنا بدوري قد بدأت بالنمو والتغير من خلال القراءة والدراسة والبحث وتبادل الخبرات مع نساء كسرن الصورة النمطية للمرأة وقدمن للمجتمع أفضل ما لديهن.

دعونا نسير على طريق النجاح للوصول إلى شخصية صحية واعدة حيث إنني كأم لن أتعاطى مع الجندرية في التربية وسأستمر في عدم التمييز بين ابني وبناتي في البيت حتى نؤسس لبيئة تربوية صالحة ونشكل رأي عام مناصر لحقوق المرأة إلى أن نصل إلى مجتمع متصالح مع نفسه يعترف بقيمة المرأة ويساعدها على التخلص من الفكر التقليدي.

لا ننكر أن الصراع موجود ومقاومته صعبة، لكن لنتذكر أننا مخلوقين على صورة الله ومثاله وأن المسيح حرّرنا من قيود الخطيئة والقيود الاجتماعية الناجمة عن عالم سقط بالخطيئة وأعاد لي ولك كرامتكِ.

أين يكمن الحل؟ وكيف نتحرر من هذا الصراع؟

علينا أن نكوّن هوية صحية عن أنفسنا من خلال معرفة الكلمة التي تمنح كل واحدة منّا الكرامة والثقة وذلك ومن خلال معرفة إلهنا الذي يمنحنا القوة للسيطرة على الصراع الداخلي والخارجي والعيش بحريّة تمجّد الله وتعمل على امتداد ملكوته، ملكوت محبة ومساواة ومشاركة وانسجام وعطاء متبادل واكتراث للآخر واهتمام بالغير، ملكوت الله على الأرض.